ثقافة وفن

“مذكرات عربجي”.. مئة عام على ثورة 1919 والحال أسوء

تحت عنوان «مذكرات عربجي» جاءت عدة مقالات تنتقد أوضاع مصر الاجتماعية بعد ثورة 1919، التي تمر هذه الأيام ذكرى مئويتها الأولى. جاءت هذه المذكرات مُسلسلة في مجلة «الكشكول» بداية عشرينيات القرن الفائت، ممهورة بإمضاء صاحبها «الأسطى حنفي أبو محمود»، ليتضح أنه الفنان سليمان بك نجيب (1892 ــ 1955)، الذي حاول رصد التغيرات التي أصابت الشعب المصري بعد الحدث الجلل وقتها، ثم أعاد نجيب جمع هذه المذكرات في كتاب صدر عام 1922، وقدّمه الكاتب فكري أباظة، إلا أن ما استفز نجيب من مظاهر وآفات اجتماعية، وسلّط عليها سوطه/قلمه، لم يزل هو الحال الآن في مصر، إن لم يكن أسوأ.. من انتهازيي الثورات وقوادي السياسة، ورجال البوليس والجيش وسطوتهم، ورشاوى رجال الأمن، والفساد الاجتماعي والسياسي بشكل عام، الذي كانت تحياه مصر ولم تزل.

اللافت أن الحياة لم تكن وردية كما تصورها كتب التاريخ، ولا حالة التبجيل التي قد نراها في هذا الشخص أو ذاك، كذلك لم يكن المجتمع المصري في ذلك الوقت بأفضل كثيراً مما هو الآن. ويبدو الرجل بهذا الشكل الذي اختاره لتدوين أفكاره وانطباعاته من خلال سائق عربة حنطور (عربجي) صورة أخرى من صور الفنان الشعبي المجهول، الذي يسرد تاريخاً حقيقياً، بعيداً عن المتأنقين والأكاديميين وأولاد الحرام. هذه بعض لمحات من مذكرات عمنا الأسطى حنفي أبو محمود، الذي صدق قوله في بداية مذكراته «فكم راكب في المركبات تجرّه.. ولو تنصف الأيام كان يجرّها”.

لا يفرّق الأسطى حنفي بين قوادي السياسة والأعراض، ومن المواقف العديدة التي يراها ويدونها لانتهازيي السياسة، مسؤول دخل عالم السياسة مع المنادين باستقلال مصر من الاحتلال البريطاني، فبدأ حياته رافعاً شعار «لا رئيس إلا سعد»، في إشارة إلى الزعيم سعد زغلول، وكذلك تحوله إلى شعار آخر، وهو «عدلي فوق الجميع»، يعني عدلي يكن، رئيس وزراء مصر الأسبق. ثم انتقل إلى مرحلة ثالثة شعارها «لا حياة إلا لثروت»، في إشارة إلى عبد الخالق ثروت رئيس وزراء مصر الأسبق، ويرجح عم حنفي أن نهاية هذا المسؤول ستكون بشعار «لا رئيس إلا ما تقتضيه الأحوال». ولا ينسى حنفي أن يذكر، أن (بيت الأمة) سدّد له الأجرة أكثر من مرّة، لأن السياسيين تسللوا من أبواب بيت الأمة الخلفية ليتهربوا من سداد أجرتهم.

أما الصنف الآخر والأكثر مباشرة في هذه المهنة، فيصف أحدهم كالتالي، «أمثال هذا الآدمي تراهم في أوجه المجالس، يلبسون أنظف وأليق الملابس، ساعاتهم ذهبية، وخواتمهم ماسية، جيوبهم دائماً عامرة، كأن لهم ريعا ينفقون منه ولا ريع، ينامون إلى منتصف النهار، ويسهرون الليل، إذا سألت عن الواحد، قيل لك: هذا خدام إخوانه، جدع ومهاود، خبير في الجنس اللطيف، وبالاختصار نسميه نحن (مفتاحجي). فبعد أن سلم صاحبنا على زبوني المحترم قال له:

ــ أما يا سيدنا البيه عندي لك حاجة النهاردة لكن (هدية).

ــ مين يا ترى؟

همس في أذنه اسماً

ــ أنا متشكر على كل حال يا أبو علي، طول عمرك جلاب المليح.

ولا أتعجب إلا من صاحبنا الوجيه، وكم في البلد من أمثاله يتوسدون الراحة ويأكلونها (أتة محلولة)، يتكلم معك حتى إذا مرّ بالحديث ذكر الشرف والأدب ومكارم الأخلاق، تراه يشكو الأزمة ووقوف الحال، مع أن تقلبات أجعص بورصة في أمريكا لا تأثير لها على بضاعتهم”.

.. أشرف مصري ومناضلة وطني

وبخلاف جو المظاهرات وعبارات الاستقلال التام وما شابه، يصبح المناخ متاحاً للمآرب الأخرى، التي يحرص عليها العديد من الوطنيين، مهما تبدلت ملابسهم وموضاتهم، فالفارق هنا بين 1919 و2011 ليس كبيرا، فالاستقلال التام لا يمنع صاحبه من اصطياد وليفة وطنية.. يقول الآفة: «هكذا فليكن حب الوطن، هكذا نعشق الحرية، فلتحيا السيدة المصرية، وهو فيه معنى لمظاهرة إلا إذا كان فيها سيدات، وبالأخص أنتم.

ــ مِرسي، كتر خيرك، إلا جنازة الشهداء النهاردة أو بكرة؟

ــ لا بكرة، تحبوا تتفرجوا؟

فترد عليه الأخرى قائلة: أيوا بالطبع من العربية في ميدان الأوبرا، مش كده يا أبلة؟

ــ عربية إيه؟ أنا عندي عيادة حكيم صاحبي، اتفضلوا هناك تتفرجوا على كيفكم.

وهكذا تسدل الستار على ميعاد يفتخر بالحصول عليه بين إخوانه، كأنما حل مشكلة علمية أو نال شهادة دراسية، أو اخترع ما يفيد العلم، هذه الجبلات التي تنادي ليحيا الاستقلال التام، وهي تستحق الموت الزؤام، لا يمكن الخلاص منها بسهولة، فهي في منزلة الجرب والسل والسرطان في الطب، وفي مكان إنكلترا في مسائل الاحتلال والحماية والاستعمار في الدول».

.. الثورة هي السبب

ولا يعدم الأسطى حنفي بعض الأصوات التي تتحاور معه على صفحات المجلة، تعليقاً على ما ينشره، وها هو أحد الأصوات المحافظة، التي ترى في الثورة سبب الفساد الأكبر الذي طال البلاد، فينتقم منها على طريقته بلا صِدام قائلاً «أرى أنه لا يجدر بنا ــ ونحن الآن في صدر عصر حريتنا ــ أن نتجاهل ونتعامى عن ما يجري في أرضنا، ويسبح في أثرنا من أنواع المخازي وضروب العار، لقد فكت سيداتنا وأوانسنا من عقال الحشمة والوقار، وما جرأهن على ذلك سوى ــ دعني أصارحك القول، وزرني أرفع النقاب عن الحقيقة المُرّة المؤلمة ــ سوى المظاهرات… فلقد نالت امرأتنا استقلالها، فصارت لها جرائد تتوسط لها في الزواج، ولجنة وفد، وسنرى لنسائنا إن شاء الله برلمانا ولجنة دستور، فهل لسادتنا السفوريين من مطلب آخر؟».

.. تحالف قوى الشعب

الشعار الناصري تحالف قوى الشعب لم يكن له وجود بالطبع وقت المذكرات، ولكن المقصود هنا هم الأغنياء والعسكر من رجال البوليس والجيش، وكيف كانت حياة المصريين بين هؤلاء، هذه الحياة التي لم تتغير حتى الآن، ولك أن تستبدل سائق الحنطور بسائق التاكسي مثلاً «يظن أسيادنا الأغنياء أن الأزمة لا تأثير لها إلا على طبقتهم، لأنهم ـ كما أظن ويفهم عقلي الصغير ـ يرون أننا بجانبهم حشرات صغيرة، تعيش بطبيعة الحال على وتيرة واحدة وحاجياتنا قليلة، وبالاختصار نحن عندهم أقل في التقدير من حيواناتهم». أما العسكر بجناحيه ـ جيش وشرطة ـ فالأمر أصعب بكثير «أما إذا كنت ممن غضب الله عليهم، وحنن عليك بنفر من جنود جلالة الملك ـ أيام الحرب طبعاً ـ وأمروك بتوصيلهم إلى ضاحية من الضواحي، فثق أنك ستتعلم منهم في فن الزوغان أحدث الطرق، وإذا خطر لك أن تتعرض لأحدهم طالباً حقك، أعطاك إياه لكماً ورفساً، وجعلك تتعلم آداب المطالبة بطريقة إنكليزية..”.

أما عَبيد المأمور فقصصهم وحكاياتهم لا تنتهي، خاصة رجال البوليس، الشاويش سابقاً وأمين الشرطة حالياً، وإن فاق أسلافه بمراحل، «وصعد صاحبنا ثم نزل ومعه (تخت) والناس مقامات، ولا تليق بتاجه الساطع إلا ست ــ على رأيهم ــ مملكة، امرأة نصف ربيبة نعمة، وبنت مجد تليد على ما يرى الناظر… لا يمكن أن تتصور فرحي أيها القارئ، فقد كنت أدعو لله أن نقابل صاحبنا، حتى أشفي غليلي برؤيته على حالته الحقيقية ـ شاويش النقطة ـ بطل الليلة الفائتة، وبالاختصار سرنا بالعربة باسم القانون مسراها، وعلى بركة الشريط الأحمر مرساها». وبالفعل، ذهب الشاويش متوعداً، وحينما وجد صاحب الشريط الأحمر مختلياً بالمرأة التخت، أدى التحية العسكرية ووقف بعيداً بجوار حنفي، ينتظر الأوامر في أي لحظة. الشاويش الذي توعد حنفي أمس بالبيات في التخشيبة، حتى بعدما رشاه أحد الزبائن الملكيين ـ المدنيين ـ ليهدأ بعد صراخ، الشاويش الغيور حامي حمى القانون والآداب العامة. «وقد كان ــ أيها القارئ ــ فإنني وشرفك لم أجسر بعد ذلك أن أدخل حدود حدائق القبة إلا وأنا مسلح، وأنت أدرى بسلاحي (ملازم أول وطالع). هذا كثير من قليل مما يفعله حراس القانون، والقانون يتألم، ولا من يسمع ولا من يرثي… وأنا أضحك في نفسي، أبكي على هذه النفوس التي تملكت رقابنا بلا مبرر، هل يرضيكم هذا أيها الملكيين من حَبّيبة وغيره؟ هل يرضيكم هذا والدنيا مساواة وحرية؟». سؤال لم يزل معلق منذ مئة عام!

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى