قراءة في كتاب “التنمية الاقتصادية في اليابان” لكيئنيتشي أونو: هكذا نهضت اليابان صناعياً واقتصادياً (الجزء الأول)

كان حافز النهوض باليابان هو الشعور القومي لدى اليابانيين ورفعهم لشعار “بلد غني وجيش قوي”. يقدم الكاتب كيئنيتشي أونو كتابه الذي حمل عنوان “التنمية الاقتصادية في اليابان”، وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي قام الكاتب بإلقائها في المعهد العالي للسياسات القومية في طوكيو في الفترة بين عامي 1990 و2004، أمام مجموعة من الطلبة القادمين من الدول النامية.  نقل الكتاب إلى العربية د. خليل درويش ونشرته دار الشروق.

يشرح الكتاب الطريق الذي قطعته اليابان كدولة نامية في ثلاثة عشر فصلاً.

.. التحديث للدول الوافدة الجديدة

في هذا الفصل يشير الكاتب إلى أنَّ التحول العظيم لليابان حدث بسبب الصدمة الخارجية (مواجهة الغرب ـ تقليد الغرب)، لكن ما ساعد اليابان على ذلك مرونة الشعب الياباني، وامتصاصه العديد من العناصر التي تحوي على تناقضات مختلفة واستخدامها بحسب الظروف، بالإضافة إلى قرب اليابان من الحضارات العظمى وقدرته على امتصاص الإنجازات الثقافية لهذه الحضارات ومزجها مع الثقافة الداخلية من دون أن تلغي خصوصيتها، غير أن اليابان هي الدولة الوحيدة غير الأوروبية التي انتقلت إلى التصنيع بشكل كامل مثل الغرب، وتخلفت عن المملكة المتحدة بين عامي 1639 و1854 بسبب العزلة عن العالم الخارجي.

حدثت عملية التطور في اليابان نتيجة التفاعل الديناميكي بين النظم الداخلية والخارجية، أي سلكت اليابان طريقة التصنيع نتيجة استجابة العديد من الفعاليات الداخلية بمن في ذلك الحكومة والمجموعات والأفراد للصدمات والتأثيرات الوافدة من الخارج.

..عصر ايدو والشروط المسبقة للتصنيع

تناول هذا الفصل الظروف الواقعية السائدة في اليابان خلال عصر ايدو عامي (1603 و1876) التي مكّنت البلاد من تحقيق التحول السريع في نهاية القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين.

بدأت قصة التطور الاقتصادي لليابان في عهد ايدو بسبب الكثير من الظروف المؤدية لعملية التصنيع والتحديث اللاحقين في هذا العصر وهي:

-التوحيد السياسي والاستقرار.

-التنمية الزراعية: حيث تطور القطاع الزراعي كماً وكيفاً.

-تنمية قطاع المواصلات وظهور الأسواق القومية الموحدة، وتطور النقل، وافتتاح الشواطئ البحرية الأساسية.

-ازدهار التجارة والتمويل وظهور الطبقة الثرية.

-ظهور الصناعات السابقة على التحديث، مثل الصناعات اليدوية والغذائية.

-ارتفاع مستوى التعليم، وهو ما يشار إليه على أنه السبب في التصنيع السريع في الفترات اللاحقة  حيث شملت حمى التعليم البلاد بأكملها.

..استيراد واستيعاب التكنولوجيا

عندما تم إنهاء العزلة التي فرضت على اليابان بين عامي 1639 و1854 وفتحت الموانئ فوجئ اليابانيون بتقدم الغرب الصناعي وتخلفهم كدولة زراعية، فاهتز اعتزازهم بنفسهم حيث كان شعارهم القومي (دولة غنية وجيش قوي). ولتحديث اليابان وضعت حكومة ميجي أمامها ثلاث أهداف:

-1التصنيع

-2إنشاء دستور وطني

-3التوسع الخارجي (التحديث العسكري).

وفي هذا الإطار أرسلت اليابان بعثة إلى الولايات المتحدة الأميركية بين عامي 1871 و1873، هذه البعثة فشلت في تعديل المعاهدات غير المتكافئة مع الغرب، ونجحت جزئياً في دراسة التكنولوجيا والنظم الغربية. وقد كان أحد أعضائها توشيميتشي أوكوبو الذي كان متأثراً بالتكنولوجيا الغربية وشغل منصب وزير للمالية، وشملت سياساته تشجيع المستشارين الأجانب، وإقامة المعارض الصناعية الداخلية، وبناء الطرق وإقامة السكك الحديدية، ومراكز البحوث الزراعية. إضافة إلى إقامة العديد من المصانع المملوكة للدولة وذلك في الصناعات الحربية، ومصانع الغزل وصناعة الحرير وبناء السفن والتعدين.  ورغم اغتياله عام 1878 استمر مؤيدوه في اتباع سياسته.

شهد عهد ميجي ولادة العديد من جماعات الأعمال والمشروعات التي بقيت وامتدت حتى الفترة الراهنة.

..نهج ميجي في التصنيع

نجح القطاع الخاص في عهد ميجي باستيعاب التكنولوجيا على مستوى واسع بدعم حكومي، كما نجح الإحلال محل الواردات في صناعة القطن بالإضافة إلى تنمية متوازنة للقطاعين الحديث والتقليدي، إذ كانت اليابان مصدراً للمواد الأولية (غزل الحرير-الشاي-الحبوب-الفحم-المعادن-المنتجات البحرية). أما الواردات فقد كانت السلع تامة الصنع (الملابس)، ثم أصبحت نتيجة الإحلال(خيوط القطن) ثم القطن الخام.

وعملت حكومة ميجي على نقل التكنولوجيا الغربية إلى اليابان من خلال المستشارين الأجانب وتدريب المهندسين اليابانيين ونقل التكنولوجيا وتهجينها (مزج التكنولوجيا المستوردة من الغرب مع التكنولوجيا التقليدية) بأسلوب مناسب على مستوى واسع بدعم حكومي.

وبشكل عام فإن ما ميّز عصر ميجي هو:

– 1تطور صناعة القطن ونجاح اليابان في غزل القطن بدل من استيراده.

– 2ظهور شركات التصنيع (تصنيع السفن-عربات النقل-الأسلحة البحرية-والصناعات الكهربائية وغيرها…).

– 3ظهور شركات إنتاج قاطرات السكك الحديدية وتأميمها من قبل الحكومة.

..تطور الصناعات الرئيسية في اليابان

يورد الكاتب أهم الصناعات التي كانت قائمة في عهد ميجي، ومسار تطورها كما يلي:

-1صناعة الحرير: كانت صناعة الحرير تقليدية، ومع انتشار التجارة الخارجية في منتصف القرن التاسع عشر، شهدت انتعاشاً كبيراً حيث استبدلت العمالة اليدوية بآلات الغزل، وبعد أن كان إنتاج الحرير عملاً جانبياً يقوم به المزارع أصبح يعتمد على الآلات الحديثة في المصانع.

كان الحرير السلعة التصديرية الأولى طوال قرن من الزمن، وكانت صادرات الحرير مصدراً ثابتاً للعملات الأجنبية الأمر الذي ساعد في عملية التصنيع.

-2صناعة القطن التقليدية: اعتمدت على الأنوال الخشبية والعمالة المنزلية، وكانت أقل كفاءة بكثير مقارنة بالتكنولوجيا الغربية. وكان الأسلوب يعتمد عادةً على التسليم النهائي (عقد بين التاجر ومصنع منزلي). وقد استمر هذا الأسلوب رغم تدفق الواردات البريطانية والتكنولوجيا الحديثة لأسباب عدة، منها:

–  1ازدياد الطلب على المنتجات القطنية.

–  2الاختلاف بين المنتجات القطنية البريطانية واليابانية.

وبنهاية عهد ميجي بدأت الآلات في الدخول على القطاع التقليدي بسبب الحاجة إلى تحسين الكفاءة في مواجهة الأجور المتزايدة، وتدهور معدلات التبادل وتحديداً فيما يتعلق بتناقص ثمن المنتج بالنسبة للمدخل.

3-صناعة القطن الحديثة: استوردت الحكومة اليابانية كميات كبيرة من غزل القطن وأنشأت شركات حكومية لكنها لم تنجح تجارياً بسبب نقص رأس المال وصغر الحجم واستخدام الطاقة المائية وقلة الخبرة. إلا أن نجاح هذه الصناعة تمثل بنجاح شركة “أوسكا للغزل” وكانت شركة مساهمة مشتركة ضمت كبار التجار وحصلت على القروض من البنك الوطني لتأمين رأس المال. واستخدمت القاطرات التي تعمل بالبخار، وجذبت العمالة بسهولة بسبب موقع الشركة في منطقة حضرية.

وظهرت بعدها العديد من مصانع الغزل التي استفادت من شركة أوساكا متخذة بعين الاعتبار أن القدرة التنافسية تتوقف على اختيار التكنولوجيا الملائمة والتي تشمل الموقع والحجم ونمط التشغيل.

وقد واجهت صناعة القطن الحديثة مشكلتين:

-1الركود الذي وصل إلى قمته عام 1900.

 

-2تعارض المصالح بين الملكية والإدارة فالملكية للأثرياء الذين أرادوا الحصول على عائدات سريعة والإداريون من المهندسين الذين يعرفون التكنولوجيا وظروف السوق.

-4عربات وقاطرات السكك الحديدية: كانت نسبة 25% من العربات مستوردة، والباقي ينتج محلياً.

أما بالنسبة للقاطرات فقد كانت جميعها مستوردة، وفي عام 1900 اُختبرت أول قاطرة نتجت عن التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص، ودعمت الحكومة الشركات الخاصة بالتكنولوجيا ومدخلات الإنتاج والإدارة الإنتاجية والتدريب، مما أدى إلى تقدم هذه الصناعة.

–5صناعة الآلات: هيمنت شركة الصناعات العسكرية المملوكة للدولة على صناعة الآلات، ومع نمو القطاع الخاص أصبحت مصانع السن وعربات السكك الحديدية هي الأكبر بين الشركات الخاصة. أما الصناعات متوسطة الحجم فشملت الأدوات الكهربائية.

-6بناء السفن: كان حوالى نصف السفن التي يتم بناؤها محلياً يقوم بشرائها مستهلكون محليون، أما الباقي فيتم إنتاجه للبحرية أو يصدر إلى الصين أو تايلاند ودول أخرى، ولم يكن إنتاج السفن للقوات البحرية مربحاً.

-7الآلات الكهربائية: هيمنت المولدات والمحولات على السوق اليابانية.

..عهد ميجي.. الموازنة المالية والاقتصاد الكلي

شعرت اليابان بضرورة خلق منطقة نفوذ حول أراضيها لحماية مصالحها في مواجهة الغرب، وأشار رئيس وزراء اليابان في خطابه الشهير أمام أول برلمان ياباني إلى مسارين:

الأول حماية أسس السيادة والثاني حماية حدود المصلحة، وهو ما أدى إلى الحرب اليابانية-الصينية التي انتصرت فيها اليابان، ورغم ذلك شعرت اليابان بأنها أقل قوة من الصين.

وبقيت كوريا وشرق الصين تحت سيطرة روسيا، فاشتعلت الحرب اليابانية الروسية (1904-1905) وانتصرت اليابان وقامت بضم كوريا.

خلال هاتين الحربين تزايد الإنفاق على الجيش واتبعت الحكومة سياسة تنشيط الانفاق المالي، أما في فترة ما بعد الحربين فقد استمر الانفاق على الجيش وخاصة السفن الحربية والتوسع في بناء السكك الحديدية ودمج أعمال الصلب في ياهاتا، والاهتمام بأعمال البنية التحتية، بالإضافة الى بناء شركة قومية للتلفونات وإدارة تايوان والاستثمار فيها، وكذلك استمر الانفاق على التعليم الذي كانت تتعهد به الحكومات المحلية.

أما بشأن سياسة الصرف، فقد اعتمدت اليابان على الغطاء الفضي وبتراجع الفضة أمام الذهب أصر وزير المالية على ضرورة اتباع غطاء الذهب برغم المعارضة وتم تأمين الاحتياطات الأولية من خلال التعويضات المدفوعة من جانب الصين بعد الحرب اليابانية-الصينية، وبذلك أصبح الين ثابتاً أمام العملات الرئيسية.

كما تضمن عهد ميجي ترسيخ جذور النظام المصرفي مع تأسيس أول بنك مركزي لليابان (1882) الذي أصبح الجهة الوحيدة لإصدار العملات الوطنية، بالإضافة الى البنوك التجارية تم إنشاء بنوك متخصصة لتمويل المشاريع الاستثمارية.

وكانت مصادر تمويل صناعة ميجي ما قبل الحرب العالمية الثانية الشركات نفسها ومدخرات العائلات، والإقطاعيين، والمدخرات الأجنبية.

لم تكن حكومة ميجي تُرحب بالاستثمار الأجنبي المباشر أو الاقتراض لتمويل الصناعة، ولكن بعد الحرب اليابانية-الصينية ومع وضع معدل ثابت للتبادل واستخدام الغطاء الذهبي تغير الموقف وأصبح من السهل على اليابان إصدار صكوك أجنبية.

ولتجنب الكوارث المالية وعجز الإنفاق، طالبت مجموعة من رجال الأعمال الاقتراض من الخارج، وخلال السبع سنوات التي تلت الحرب اليابانية-الصينية أصدرت الحكومة صكوكاً بالنقد الأجنبي بلغ مجموعها 190 مليون ين، وبعد الحرب اليابانية-الروسية أصدرت الحكومة مرة أخرى صكوكاً بلغت قيمتها ممليون ين لمواجهة نفقات الحرب.

..الحرب العالمية الأولى: الانتعاش وحالة الكساد

-1آثار الحرب العالمية الأولى: توقفت صادرات الدول الأوربية إلى العالم، وواجهت اليابان نقصاً حاداً في الآلات عالية المستوى ومدخلات التصنيع بسبب تزايد الطلب الداخلي، لكن التصاعد المفاجئ في الطلب العالمي على المنتجات اليابانية أحدث انتعاشاً للاقتصاد الياباني، إلا أن ذلك كان مؤقتاً واستمر طيلة سنوات الحرب الأربع فقط.

 

-2انهيار الفقاعة: ظل الاقتصاد جيداً حتى بداية الكساد عام 1920.

-3تطور الصناعات الثقيلة والكيمائية: بالرغم من الظروف الاقتصادية السيئة، ازدهرت الصناعات الثقيلة والكيمائية وكانت تنمو بقوة برغم الضعف النسبي للطلب الكلي. وتوسعت صناعة الصلب والكيمائيات والآلات الكهربائية والآلات المخصصة للاستخدام العام وآلات الحرير الصناعي، ومع حلول الثلاثينات من القرن العشرين أصبحت اليابان قادرة على إنتاج أغلبية الآلات كلياً.

– 4تقلبات أسعار الصرف: بدأ تعويم الين الياباني عام 1917 وفكرت اليابان بالعودة الى نظام الذهب خلال أعوام 1919-1923-1927 لكنها فشلت.

– 5دبلوماسية شيديهارا في العشرينات: كان وزير الخارجية الياباني شيديهار مقتنعاً بضرورة وجود علاقات حسنة مع الولايات المتحدة الأميركية، لكن هذه العلاقات قد تأثرت بسبب المهاجرين اليابانيين على شواطئ الولايات المتحدة، وانتُقدت سياساته لعدم التدخل العسكري في الصين. وفي عام 1931 حدثت واقعة منشوريا وبدأ الجيش الياباني في غزو شمال الصين من دون الرجوع إلى طوكيو.

..أزمة شووا المالية عام 1927

– 1مشكلة البنوك المؤسسية: تم إنشاء هذه البنوك لخدمة عدد قليل من منظمات الأعمال ولكن مع بطء النمو الاقتصادي بعد الحرب العالمية الأولى عانت هذه البنوك من مشكلة الديون المعدومة.

– 2زلزال كانتو العظيم ومشكلة الأوراق المالية: في سبتمبر 1923 حدث زلزال كانتو فأصاب الدمار مدينتي طوكيو ويوكوهاما بدرجة كبيرة، فقام بنك اليابان بمنح نوع خاص من قروض الطوارئ إلى البنوك التي تأثرت في تلك المنطقة وهذا الإجراء ساهم في حماية سوق المال اليابانية إلا أن هذه البنوك استغلت هذه السياسة في استبدال الديون المعدومة غير الناتجة عن آثار الزلازل بأموال سائلة.

– 3شركة سوزوكي التجارية وبنك تايوان: بعد الحرب العالمية الأولى واجهت شركة سوزوكي التجارية مشكلة ديون مشكوك في تحصيلها، وطلبت من بنك تايوان الذي تتعامل معه منحها قروضاً لتتمكن من تجاوز الأزمة، لكن بعد التصعيد التراكمي لمشكلة الديون رفض بنك تايوان أي عمليات إقراض لسوزوكي.

– 3بنك اليابان يطلب ضمان الحكومة: أُرغمت الحكومة على إصدار قانون خاص لمتطلبات بنك اليابان بعد رفضه أن يلعب دور المقرض، شمل ما يلي:

– 1منح قروض لبنك تايوان من دون ضمانات حتى 1928.

– 2تعويض الحكومة بنك اليابان عن الخسائر المرتبطة بهذه القروض بحدود 200 مليون ين، لكن المجلس الاستشاري رفض بشكل غير متوقع هذا المرسوم مما أرغم بنك تايوان على الإغلاق في 18 أبريل 1927. وفي اليوم نفسه أُغلق بنك أومي المتخصص في مجال أعمال القطن، مما أدى إلى سلسلة من ردود الأفعال في صورة إعلان عن إفلاس بنوك أخرى في اليابان، فأمرت الحكومة البنوك بالإغلاق الطوعي وتعليق كل الالتزامات المالية لثلاثة أسابيع وعادت الأمور إلى مجرياتها الطبيعية بعد انتهاء فترة تعليق النشاط

– 3تبعات أزمة البنوك: عملت الحكومة على دمج البنوك الصغيرة وغير الفعالة لتحديث القطاع المصرفي الياباني.

… يتبع

 

Exit mobile version