ضباب الأمكنة..عن تحولات المكان وسيرة غائبة عن التدوين

للكاتب العراقي زهير الجزائري

أمكنة زهير الجزائري يغلفها الضباب، لا ينقشع منها، إلا لكي تتحول عن سيرتها الأولى، لكنها تحتفظ في الذاكرة بمكان ودلالة لاتمحى..

تحولات هذه الأمكنة تحتكم للذاكرة التي تختزن جغرافيتها ورائحتها، وتفاصيل أحداثها، فتغدو أمكنة أخرى درجة لا يعرفها الكاتب للوهلة الأولى، الا بالانخراط في عبقها.

المكان ليس بالضرورة هو المكان التاريخي الذي يعرفه الكثيرون، بل هو الذي يحتضن الذكريات ويمنحا خصوصيته، فالمكان الذي يزدحم بحيوات ويوميات غائبة عن التدوين، المكان هنا هو مكان سيرة مدينة كنص ومشروع بالتحول الذي يصيب المكان.

فالأمكنة هنا ما هي إلا سيرة ذاتية للجزائري، تروي جانبا من حياته، جانبا ارتبط ارتباطا لا انفصام فيه مع تفاصيل الحياة، حياته، وما تثيره هذه الأمكنة من ذكريات، بل ومن رائحة، ألم يقل كازنتزاكي: «الأماكن تثير منخريّ».. ولعل تمكين عنصر المكان بمقدار من الاهتمام على باقي مكونات السرد يرجع إلى استلائه أقلام المبدعين وانجذاب القراء به وعلى ضوء المكانة الخاصة التي يشغلها المكان، يجدر التنبيه إلى أن حضوره، يمثل امتدادا طبيعيا لحياة الإنسان التي يجسد فيها المكان جزء الأكبر، مع شيء من التعمق، والتوسع، المتعلق بالمهارات والخصائص التي تزيد من اشتغاله.

يحمل المكان دلالات متنوعة وعلاقات مختلفة تربط الإنسان بقوامه المكاني، فيتفاعل كلمنهما مع الآخر، لتنشأ العلاقة المزدوجة بنتهما، فتكون في اتصال أحيانا وفي انفصال حينا آخر فيبسط المكان حركته على الشخصيات، ليدلنا على مدى الجدلية التي توليها اللغة في إطار توظيفها داخل النصوص السرد.

لا تعطي دلالة المكان والزمن معنى، ولكن الأمر يتغير عندما يغذيها النص،فيجعل القارئ يدرك ماذا يقرأ وتتضح دلالة المكان والزمان فتتشعب إلى فهم الجغرافيا المحدودة لهذا المكان، والشخصيات التي هي رموز أو شارات يفهمها ويتجاوب معها القارئ وفق معالمها ومعطياتها ودلالتها وهذا بفضل تعدد المعاني والصور اللطيفة والقيمة الفنية التي يمتلكها السارد لوصف المكان.

عندما يستعين كاتب النص بوصف المكان أو تسميته، فهو لا يسعى إلى تصوير المكان الخارجى، وإنما يسعى إلى تصوير المكان، وأى مطابقة بينهما، هي مطابقة غير صحيحة، وما استعانة الكاتب بالتسمية أو الوصف إلا لإثارة خيال المتلقي.

يقول زهير الجزائري في مقدمة كتابه (ضباب الأمكنة) الصادر عن دار المدى: «أردت في هذا الكتاب ان اثبت بالكلمات واقعا هاربا ومن خلال الكلمات اعطي هذا الواقع معنى ما، المكان كان هاجسي ووسيلتي لكنه يهرب مني حين أغيب عنه أو أعود اليه بين ذاكرة الصور وذاكرة الكلمات لو تأتني هذه الأمكنة وحكاياتها وانا مستلق على قفاي، ولا هي اخترقتني وانا أسير في منفاي ساهياً عنها لكي اتذكرها وادرك وجوهرها الخفي ذهبت انا اليها وبالأصح غرزت راسي فيها ووجدت ان الأمكنة ليست وجوداً شعرياً ساكنا. وحسب هي في جدل مع الزمن ومع ساكنيها».

المكان إذن كان يسكن رأس زهير الجزائري وهو في منفاه، يتذكره ويرسم له صورة متخيلة عما كان وما سيكون، تبدأ من انطباعه الأول عنه يوم كان يلازمه في الوطن، ثم يخضعه لصيرورة جديدة، أعني يعيد إنتاجه وهو يطأه أول مرة، بعد سنوات الغياب المريرة، لتكون الصورة الجديدة، المحملة بالمتغيرات والتحولات الكبيرة فيه، فما يعطي المعنى للامكنة في هذا الكتاب هو ما فيها من رموز وذكريات، انجذابات واتصالات، “بيني وبين هذه الأمكنة كثير من الغموض هو بعض من ذاكرة المنفي المعطوبة، اعود للأمكنة بوعي المنفي حيث التذكر يصبح هدفاً بذاته وليس مقدمة لفعل، ادرك الفرق بين زمن التذكر والزمن الواقعي المستذكر لكن الاحداث في العراق تقطع التمهيد والنهايات الحتمية وتغلب المباغت.»

فهذه البتاويين (مدينة الرحيل لا الإقامة) المدينة التي تقع في قلب بغداد الصاخب، والذي كان يوما ميدانا لشقاوة وحيوية الشباب الذي كانه، “في سنوات الامان المتوهم بين ١٩٧٥-١٩٧٩ سكنت مدينة الرحيل ثبت مكتبة على الجدار ولوحات لبيكاسو وماتيس ووضعت سريراً قرب النافذة ومددت ساقي باسترخاء وقلت لزوجتي: هذا بيتنا!”.. تحولت من ذلك المكان الذي يرعى مغامرات الكاتب، الى مدينة غريبة عنه، “حين عدت من منفاي عام ٢٠٠٣ كانت البتاويين قد تحولت إلى اخطر منطقة في العالم».

ويرى في جسر الجمهورية مساومة بين المتناقضات في داخله والمتعارضات “من الإذاعة والتلفزيون في الطريق إليه أزيح الزيف وكلمات النفاق وترسباتها وانتزع من قلبي دبابيس الكراهية لأصفو لنفسي كما أنا وأتهيأ لرفقة الثقافة والبوح في مقهى المعقدين.” ليتحول في قائمة الأمكنة المتحولة، «ذات يوم انقطع طريقي على الجسر بجدار كوكريتي على ارتفاع مترين خلفه صفوف من الخوذ وحرس مدججون بالسلاح. كنا على الجانب الثاني وفي نهاية الشارع جدار آخر وسلسلة من الحواجز.. هناك تختفي السلطة التي تحكم البلد ولا تراه. ألصقت ظهري بحديد الجسرليمر موكب واحد منهم. الزجاج معتم بحيث نفترضه ولا نراه، بينما يراني هو والامكنة التي تختفي من أمامه بسرعة. يلتفت الى الخلف قليلا: أين رأيته، أين..؟

أما (الكرادة) هذا المكان الذي جسد التحول بصورته السوداوية، فمن السيروسط الزحام حيث يلتقط انطباعاته عن حركة المدينة بنشاط وحيوية، ليتجلى التحول بانفجار كبير يحرق نصف أسواقها، “أراهم الآن وهم بأناقتهم القديمة يراقبون الشارع بنظرات خائفة، السيارات المفخخة هزت أمانهم وافلت زجاج الواجهات شظايا عكست شكل البضائع للمرة الأخيرة وهي تشق الفضاء مع الانفجار افلت منهم المكان وأفلتت الفته».

ويُنسى الاسم القديم (كرادة مريم) ليصبح المنطقة الخضراء، ينسى تماما الشوارع والمحال والبيوت في هذه الكيلومترات المربعة العشرة قبل أن يسيجها الأميركان بعد 2003، «أسيجة الكونكريت تقطع بصرنا وذاكرتنا عن المكان الذي اغترب عنا».

وكالات

 

 

 

Exit mobile version