تستمر الحروب ولا تموت المدن

طارق الحريري

حرب المدن هي الحرب الفادحة في نتائجها علي الجيوش النظامية والسكان في المدينة التي تتعرض للهجوم، وهي الحرب الأصعب علي الجيوش المدججة بأنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة، القادرة علي التدمير في المعارك الأرضية مهما بلغت قدرات القوات الغازية من دُربة واحتراف.

عندما تستولي القوات المهاجمة علي مدينة ما تلبث المقاومة العاتية في التصدي لها، سواء كان المقاومين مدنيين من السكان المحليين أو ميلشيات متطوعة من أماكن مجاورة هبت للمساعدة، حيث تدور المعارك من شارع لشارع ومن بيت لبيت، وفي هذا النوع من الحروب ينطبق المثل العربي أهل مكة أدري بشعابها.

ربما تشارك القوات المسلحة للدولة صاحبة المدينة التي تتعرض للغزو بإرباك خطوط إمداد المهاجمين وقصف قواتهم الداعمة من الخارج، عندها تجد القوات المغيرة نفسها في ورطة صعبة، لذلك تبنت القوي الكبرى أسلوب التدمير العنيف الكامل بالقصف الرهيب عن طريق الجو في الحرب العالمية الثانية. تلي ذلك ظهور الصواريخ الباليستية العابرة للقارات التي تحمل رؤوس نووية، والتي تتحاشى تماما القوي الكبرى الإقدام علي استخدامها، لأن العالم عند التهور باللجوء إليها يصبح علي حافة هاوية الفناء.

طوال التاريخ كانت الحروب ضد المدن تتصف بأنها ذات طبيعة معقدة ومتغيرة، وقديما كانت المدن تتحصن في مواجهة المهاجمين، مما استدعي تطوير تقنيات أكثر تطورا للتغلب الحصون والاستحكامات الدفاعية، فالمدن دائما منذ العالم القديم هي مركز للسلطة والثروة، وكثيرا ما تحتل موقعا حاكما.

احتفاء هوميروس في الإلياذة بحرب طروادة ذي دلالة في ملحمته الشعرية، وهو يحكي كيف تم الاستيلاء عليها بعد حرب ضروس استمرت عشر سنوات، ورغم البعد الأسطوري في التناول إلا أن الموضوع في حد ذاته يأتي كانعكاس لحروب المدن بين بعضها البعض في هذه المنطقة من العالم القديم، وهناك رأي بين المؤرخين يري أن أول حرب لمدينة في التاريخ تمت منذ ثمانية ألاف عام، في مدينة تدعي “جاتال هويوك” كان موقعها موجود في تركيا حاليا.

في مرحلة تالية تخلصت المدن من حصونها وأسوارها نتيجة بعدين الأول: تطور تسليح الجيوش واعتمادها علي المدفعية بعيدة المدى عوضا عن الأساليب القديمة للقصف، أما البعد الثاني فهو: التحول الذي تم في بنية الدولة الحديثة، مما أعلي من أهمية المدن السياسية والاقتصادية، وباستمرار النزوح المستمر لها أخذت تتعمق مكانتها الاجتماعية أيضا, ومن ثم زاد استهداف المدن في الحرب.

بعد أن استوعبت الجيوش المعاصرة خطورة الحروب داخل المدن وما تتكبده قواتها فيها من خسائر لجأت إلي وسائل أكثر دموية وعنفا وتدميرا؛ إلي حد الإبادة الكاملة، فمنذ أن أحرق الرومان مدينة قرطاج بالنار بعدها بقرون اكتوت بها “جورنيكا”، التي قاومت ببسالة ضد “الجنرال فرانكو” مما جعله يستعين بقوي خارجية حيث قام بإبادتها طيران النازي الألماني والفاشيست الإيطالي، مما دعا “بيكاسو” لإبداع لوحة بإسم هذه القرية أو المدينة الصغيرة صارت أيقونة في الفن التشكيلي المعاصر، تعبر عن بشاعة هذا التدمير الفظيع الذي يشار إليه بأنه أول تدمير كامل لمدينة من الجو.

في الحرب العالمية الثانية شهدت عدة مدن عنف وقسوة بالغين، نتيجة القصف الجوي الذي أتي علي الأخضر واليابس من طرفي الحرب اللذان أصابتهما لوثتها، ومثالا لهذا قصف النازي لمدينة “كوفينتري” في غرب أنجلترا، التي شهدت دمارا هائلا لم تشهده أي مدينة بريطانية أخري، وبسبب جنون الحرب لم تتخذ الحكومة أي إجراءات استباقية، حتى لا تكشف علمها بنية الألمان الهجوم علي المدينة، وحتي لا يعرف الألمان أن الحلفاء نجحوا للتو في فك “شفرة أنيجما” التي باكتشافها تصبح كل خطط الألمان فيما بعد معروفة ومتاحة.. بعد انتهاء الحرب قامت الحكومة بإعادة بناء المدينة بالكامل.

علي الجانب الآخر قام طيران سلاح الجو الأمريكي والبريطاني في فبراير من عام 1945 بقصف مكثف علي مدينة “درسدن” الألمانية، وفي خلال 23 دقيقة فقط بدت المدينة وكأنها مغطاة ببساط من القذائف، مما تسبب في تدمير مساحة 15 كيلو متر مربع وتم تدمير مركز المدينة بالكامل، ومن المفارقات الإنسانية فيما بعد مشاركة فنان بريطاني كان أبوه مشاركا في قصف المدينة في إعادة بناء كنيسة “فراون كيرشه” التي تعود إلى العصر الباروكي، وقد بدأ إعادة بناء هذه التحفة المعمارية عام 1994 واستغرقت 11 عاما، وجدد معها النصب التذكاري للقس المجدد “مارتن لوثر”، بعد جمع تبرعات من جميع دول العالم وأصبح المكان رمزا للأمل والمصالحة في مدينة صارت مزارا سياحيا، ولم يبق من الدمار سوي بانورما تحكي أيام الحرب العصيبة كعبرة وعظة لتحاشي الخوض ثانية في أوارها.

اختتم دمار المدن في الحرب العالمية الثانية بنهاية مأساوية مروعة، حينما قامت الولايات المتحدة بإلقاء القنبلتين النوويتين علي هيروشيما ونجازاكي في السادس والتاسع من أغسطس عام 1945، وبلغ من عنف الضربتين أن المدينتين تمت تسويتهما بالأرض تماما في لحظات، وقتل بسبب هذا القصف ما يزيد عن مئتي ألف إنسان، وفي الرابع عشر من أغسطس أعلن الإمبراطور الياباني الاستسلام لشروط الحلفاء، ثم أعيد بناء المدينتين المنكوبتين من جديد.. بعدها اعتلي السلاح النووي قائمة أسلحة الدمار الشامل، في أول وآخر مرة يستخدم فيها هذا السلاح الأشد فتكا بالبشر والمكون المادي للحضارة.

سكاي نيوز عربية

Exit mobile version