الكاميروني مبيمبي توقع تأثيرات الجائحة قبل حدوثها من خلال توصيفه لـ«محنة العالم»

ربّما باستثناء الفيلسوف آلان باديو الذي لم يعد لديه من جديد ليضيفه، تبدو السّاحة الفكريّة في العالم الفرنكوفوني وكأنها أقفرت ولم تعد بقادرة على التّنظير حتى لفرنسا الواهنة، ناهيك بصياغة أجندة الجدل الغربي كما كان الحال في النّصف الثاني من القرن العشرين. إلاّ أن صوتاً جديداً آتياً هذه المرّة من بلاد الجنوب تمكّن من كسر موسم القحط المديد هذا، ملقياً الكثير من الحجارة في مياه النّظرية النقدية الفرنكوفونيّة. إنّه الفيلسوف والبروفسور الكاميروني أخيل مبيمبي.

بكثير من المعرفة النظريّة المحكمة، والاطلاع المُتفلسف على المسائل السياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة لعالمنا المعاصر، كما قدرة لا محدودة على الخيال والرّبط بين الوقائع والدّوافع، يقدم مبيمبي في مجمل أعماله قراءة جديدة متكاملة شديدة الأصالة لشكل العالم في هذه الحلقة المُتأخرة من تاريخ الرّأسماليّة معريّاً الجانب المظلم للدّيمقراطيات الغربيّة والعُنف السّياسي الممنهج للسّلطة، والعلاقات الملتبسة أبداً بين المستعمِر والمستعمَر. وهو وإن انطلق من مفاهيم أسس لها مفكرون سبقوه مثل فرانتز فانون وميشال فوكو وسيدريك روبنسون، لا سيّما في نظريّات العرق وإنهاء الحالة الاستعماريّة ونقد الديمقراطية (بنموذجها الغربي الليبرالي المعاصر) كما «القوة الحيوية»، والسّيادة»، و«حالة الحصار»، «والحرب كدين»، إلا أنّه يُكمل من حيث توقفوا ويجعل منها أساسات لمعمار يشيّده بطرازه الخاص، كما لو كان متحفا هائلا نتأمّل من خلال مقتنياته الثمينة ذلك التقاطع السّافر بين التّاريخ والحاضر، وبين دفء السرديّة المتوارثة وصقيع الحقيقة.

ومع أنه يكتب بحيويّة فائقة غير معهودة عند الأكاديميين، ودون تعالٍ، مع تمكّن ظاهر من ناصية النّص (فرنسيّاً) – والترجمة إلى الإنجليزيّة ممتازة بحق بقدر ما يسمح به العبور بين اللغات – فإن قراءته متطلّبة، وتحتاج إلى تأسيس ولو موجز في المصطلحات الفلسفيّة والمفاهيم السياسيّة كما أنجزتها الثّقافة الفرنسيّة في النصف الثاني من القرن العشرين كي توضع في سياقها (التطوريّ) التاريخيّ. ومع ذلك، يمكن دائماً للقارئ غير المتخصص – وعبر صفحات قليلة عادة ودون الحاجة للغوص في الفذلكات التأطيريّة – الحصول من مبيمبي على تحليل ثاقب وصادم يدفع بلا هوادة إلى إعادة النظر في كثير من المسلمّات التي عجز معظمنا طوال الوقت عن رؤية تهافتها وتناقضها.

يكتب مبيمبي الأستاذ في فلسفة التّاريخ والسياسة في جامعة ويتواترسراند (جوهانسبرغ – جنوب أفريقيا) مقالات في الصحف والدّوريّات، وأصدر عدّة كتب ترجمت لأكثر من 13 لغة لاقت قبولاً واسعاً ليس في الأجواء الفرنكوفونيّة حصراً، بل وكذلك في الجهة الأنغلوفونيّة من العالم. لكن أكثر كتبه شهرة هو «نيكروبوليتكس» أو «سياسة الموت» الذي صدر قبل أسابيع وجيزة من تفشي وباء (كوفيد – 19) واعتبره النقّادُ لاحقاً نبوءة عرّاف توقع بتوصيفه لحالة العالم تأثيرات الجائحة قبل حدوثها من خلال كشفه عن العيوب البنيوية في مجتمعاتنا المعاصرة، تلك العيوب التي ما لبثت تحملق فينا ومع ذلك لا نراها.

يبدأ «نيكروبوليتكس» مع مقدمة قصيرة، عنونها بـ«محنة العالم»، يلمع فيها سريعاً أسلوب الكتابة لفيلسوف متمكّن لا يخضع خياله لقواعد اللعب المألوفة ويطرح خطابه بثقة من حاز ثروة من المعرفة. ويظهر مبكراً استفادته في صياغة مقارباته من عمل فانون السياسي والسيكولوجي لتشكيل حججه حول «الحرب (على تنوع أنواعها) كدين معاصر»، والتنديد بتحويل السياسة في الرأسماليّة المتأخرة إلى عمل يستهدف تعظيم الرّبح، وهو ما يرى أنه يخاطر بالقضاء على إمكانية السياسة بالمطلق.

فكرته عن «التجسّد الليلي للديمقراطية» أو الجانب المظلم من الدّيمقراطية الليبراليّة الغربيّة تقوم على نفس المخاوف والرّغبات والتشبّع بالعنّف الذي كأنه الاستعمار، ويتطرق إلى ما يصفه بأنه الحياة المثالية في الديمقراطية، المسالمة والخالية من العنف المباشر فيناظره بتوحّش الديمقراطيات المعاصرة: الولايات المتحدة التي بدأت أصلاً ديمقراطية مؤيدة للعبودية وتمارس العنف ضد أقليّات عرقيّة من سكّانها، تطرح ذاتها اليوم ضامنة للأمن والسلام العالميين فيما كل سياساتها قائمة على إلحاق العنف داخليّاً وخارجيّاً بوسائل أخرى، وتضفي طابعاً مؤسسيّاً على نمط من عدم المساواة الحادّ على نطاق معولم فكأنّه استعمار مستمرّ بنسخة مُحدّثة. يطلق مبيمبي النّار على العنصرية بوصفها المحرك الرئيسي وراء المبدأ السياسي للديمقراطيات الغربيّة والتي يراها تخلق دورة مكتملة من الأجواء المسمومة تبدأ بإفساد حياة ضحيّة الجلاّد، ثم لا تلبث وتنتقل لتفسد حياة الجلّاد أيضاً، الذي وكأنه ضحيّة أخرى لـ«مجتمع عداوات» يستمر في إعادة إنتاج الانفصال، والاستقطاب، والفجوات الاجتماعيّة والاقتصادية التي يتعذّر جَسْرُها. فأي معنى للحريّة إذن إن لم يكن من حق المواطن الخروج من لون «لحظة الولادة»؟

ويتحدّث عن الكينونة «المرعوبة» التي تعيشها الأنظمة الغربيّة الباحثة أبداً عن (آخر) يُصنّف عدواً، وتحدد من خلاله هوياتها الملفّقة: الولايات المتحدة مثلاً في تعاملها مع الأقليّات العرقيّة والأجانب واللاجئين والمهاجرين والمسلمين، تماماً كما كان الحال في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ويستمر إلى اليوم في المجتمع الإسرائيلي حيث سياسة فصل السكان الأصليين فيما يشبه سجوناً جماعيّة كبرى. وهو يقول إن هذه «الكينونة المرعوبة» تترجم حالة دائمة لـ«انعدام الأمن» تغدو الأساس النّاظم لبنية الدّولة الأمنية ويهيمن على ثقافتها «خطاب الخوف»، فيما تتحول العنصرية منتجاً استهلاكياً يحتاجه المواطنون كي يستمروا في حياتهم، والحروب الدائمة رياضتها المفضّلة.

كما يأخذ مفهوم ميشال فوكو عن الـ«بايوباور»، أي القوة الحيوية، الذي يشير إلى أن التعبير الأعلى عن امتلاك السّلطة هو في صلاحيّة تحديد من يعيش ومن يموت وتبني مفهوم للسيادة يبرر مثلاً إبادة جميع من يعتبرون أعداء للدولة» إلى أقصاه متهماً النّخب الغربيّة المهيمنة بإدارة دولها لا لغاية حماية نطاق حريّة الأفراد وضمان حقوقهم كما في المفهوم النظري عن الديمقراطيّة، ولكن لتمكين عمليّة السيطرة على وجودهم وتحويلهم إلى أدوات والتخلّص من الفئات غير المرغوب بها منهم عبر تدمير متدرّج ممنهج لأجسادهم أفراداً ومجموعات من خلال ترسانة من الأسلحة والسّياسات والتشريعات المختلفة تتكفّل فرز فضاءات للفناء، مدن مقابر– مقابل فضاءات الحياة في كل تجمّع حضري – يكون قاطنوها فيها أقرب إلى حالة (زومبيّة) ما بين الحياة والموت، وأهدافاً سهلة لكل الأمراض والأوبئة والخلل البيولوجي أقله بالمفاضلة مع فضاءات الحياة على الجانب الآخر من المجتمع.

أنعش مبيمبي بمداخلاته النّقاش في أوروبا عن المعنى الحقيقي لديمقراطيتها المزعومة وهي القارة التي تتآكلها الرّغبة الدّائمة في الفصل العنصري، ويترفع عن مطبّات التاريخ القومي والهويات المختلقة والحدود المصطنعة والجغرافيا البائسة ليوسّع الخطاب فيطال النوع البشري برمته. فالأرض – بعكس ما تريده النخب الغربيّة – تنتمي إلى جميع سكانها، دون تمييز بسبب العرق أو الأصل أو الدين أو حتى الأنواع، وهذا يجب أن يكون دافعاً لإعادة بناء علاقة (أعقل) بين الذّات والآخر. ويمكن للمرء أن يرى بوضوح الإمكانات التّخريبية (بالمعنى الإيجابيّ) لفكر مبيمبي.

Exit mobile version