كتب

الجزء الأول: قراءة في كتاب «الـمعلقات وعيون العصور» للدكتور سليمان الشطي

أهدى الباحث الكويتي الدكتور سليمان الشطي المكتبة العربية مجموعة متميزة من المؤلفات الإبداعية والنقدية،  ومن دراساته النقدية نذكر:«الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ»، «مدخل:القصة القصيرة في الكويت»، «ثلاث قراءات في نقدنا القديم»«الشعر في الكويت»، «المسرح في الكويت».

ومن إسهاماته الإبداعية:«الصوت الخافت، «رجال من الرف العالي » ، «أنا الآخر». ويعد الدكتور سليمان الشطي من أبرز الذين أرسوا دعائم  النهضة الفكرية، والعلمية في الكويت، كما أسهم في إثراء العديد من المؤسسات الثقافية الكويتية،  مثل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،  ورابطة أدباء الكويت، ومؤسسة الكويت للتقدم العلمي، والمعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت، وغيرها من الهيئات الثقافية والعلمية.

وفي كتابه الأخير، الموسوم ب:«المعلقات وعيون العصور»، والصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت سنة:2011م، يقدم لنا دراسة شائقة عن المعلقات الجاهلية، حيث يسعى إلى إبراز مجموعة من الرؤى،  والدراسات التي قُدمت عن المعلقات عبر العصور، وكما يصف الدكتور سليمان الشطي دراسته فهي « دراسة للدراسات، ونظرة في النظرات للشعر الجاهلي، المعلقات نموذجاً ومجالاً».

ويشير إلى  أن دراسته سعت جاهدة إلى الوقوف مطولاً مع شرح القدماء للقصائد السبع، حيث يرى أن جهودهم مساهمة ثمينة، ومهمة، وأساسية للفهم والتحليل، بيد أنها لم تحظ باهتمام كبير، وعناية فائقة بسبب ما يتبادر إلى العقول من أن جهودهم تنضوي تحت لواء نمط واحد محدود القيمة النقدية.

..في البدء كانت الشروح

في الفصل الأول من الكتاب، وتحت عنوان: «في البدء كانت الشروح»، تطرق إلى شروح القدماء للمعلقات، حيث يذكر أن أقدم نص مشروح هو تلك النسخة الفريدة من شرح أبي سعيد، وأبي جابر، ويرجح الدكتور سليمان الشطي أن هذا الشرح يعود في أصله إلى أبي سعيد الضرير أحمد ابن خالد الضرير، وهو أحد ثلاثة اصطحبهم عبد الله بن طاهر حين ولاه المأمون خراسان، وقد كان مؤدباً لأولاده، ويقوم على خزانة الأدب له، وقد أهملت الكثير من المصادر شرحه للمعلقات، ولم يرد ذكره، وذلك يعود إلى أن شرحه لم يكن شرحاً مستقلاً، ونصاً من تأليفه بقدر ما أنه فصل من فصول أماليه، وبخصوص منهج شرحه-وكما يرى المؤلف-فهولا يخرج عن الخط العام الذي نهجه الشراح العرب من بعده من حيث إثبات المعنى العام مع الإعراب، واللغة، والأحداث التاريخية، وتميزت نسخته بالتوازن، والاختصار في المعلومات، وعدم الميل إلى الإسراف في بسط آراء الآخرين، وهذا ما جعل من شرحه مساهمة ثمينة من مساهمات القرن الثالث .

ولم تكن هذه المساهمة الوحيدة في ذلك القرن، حيث ذكرت المصادر لابن السكيت( توفي حوالي244هـ)شرحاً للقصائد السبع، أما آخر شراح القرن الثالث فهو ابن كيسان( ت: 299هـ).

وتميز القرن الرابع بظهور الكثير من الشروح، نظراً لتوافر صورة واضحة للشعر الموثق الذي يسره الرواة، والعلماء، وصناع الدواوين، والمجموعات الشعرية، وبعد هذا القرن تتابعت الشروح، وكثرت أعدادها، وظهرت بعض المحاولات المتميزة عند الأندلسيين على سبيل المثال كالأعلم الشنتمري (ت:476هـ)، وأبي بكر البطليوسي (ت:494 هـ)، في شرحيهما على شعر الشعراء الستة، ومن الجهود المتميزة في دنيا الشروح شرح الزوزني (ت:486هـ)، وممن مثلوا القرن الخامس أيضاً أحمد بن عبد الله بن سعيد الأنصاري.

ويذكر المؤلف أن من جاء بعد هؤلاء هم نقلة،  أو ملخصون من مثل التبريزي (ت:502هـ)، ويرى أنه خير من يمثل هذا الأسلوب في شرحه المعروف للقصائد العشر، وقد سار على نهجه، وتابعه تلميذه موهوب الجواليقي (ت:540هـ)، في كتابه «السبع الطوال بغريبها»، كما ذُكر لأبي البركات كمال الدين بن الأنباري(ت:577هـ)، شرح على السبع الطوال، ومن الذين ظهروا في القرن السادس أيضا محمد بن خلف بن محمد بن عبد الله بن صاف اللخمي(ت:586هـ)، وفي القرن السابع ظهر عليَّ بن عبد الله بن ناشر الوهراني (ت:615هـ)، كما ظهر شرح للكموني يعود تاريخه إلى سنة:617هـ، وشرحه-كما يذكر المؤلف-شرح بسيط مختصر في أغلبه، ويعتمد على الشروح المشهورة، كما يشير إلى أن الشروح المتأخرة في أغلبها الأعم تعتمد على الأصول الأولى.

وبالنسبة لجهود رجال القرن العشرين،  يشير المؤلف إلى أن حصرها صعب نظراً لكثرة ما قيل، وكُتب عن هذه القصائد السبع، وفي هذا العصر تغيرت طبيعة النظرة للشرح والتفسير، غير أن أصحاب الاتجاه الإحيائي للتراث العربي ساروا على النهج القديم، واهتموا بهذه القصائد، وشرحها اختياراً،  وتقريباً، وتسهيلاً عن الشروح القديمة، وفي هذا الشأن ينبه المؤلف إلى شرح محمد بدر الدين أبي فراس النعساني الموسوم«نهاية الأرب من شرح معلقات العرب»، وكذلك شرح الشنقيطي الذي أسماه «شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها»، وكتاب«رجال المعلقات العشر»للشيخ مصطفى الغلاييني، وكذا محاولة طلال حرب في كتابه «الوافي بالمعلقات»، وفي ختام رحلته التاريخية توقف وقفة متأملة مع جهد الناقد الجزائري الدكتور عبد الملك مرتاض في كتابه: «المعلقات:مقاربة سيمائية / أنثروبولوجية لنصوصها»، حيث رأى أن دراسته جاءت متوازنة في الطرح، وانطلقت حاملة في ثناياها رؤية مستندة إلى معطيات تراثية صالحة، وثقافة حديثة ثرية.

..نظرات تعليمية

في الفصل الثاني من الكتاب صنف الدكتور سليمان الشطي الشروح التعليمية للشعر الجاهلي إلى ثلاثة مناهج رئيسة: أ-المنهج التعليمي الفني. ب-المنهج التعليمي اللغوي. ج-المنهج التعليمي التلفيقي.

ويذهب إلى أن هذه الفروق لا تمثل مناهج ذات رؤية محددة المعالم تقف خلفها فلسفة تعليمية أو نقدية، فهي أبسط من ذلك بكثير، وهي لا تتعدى أن تكون اجتهادات فردية،  وفوارق بين شارح وآخر، كما لاحظ أن أصحاب هذه الشروح، ولاسيما منهم أصحاب الاتجاه التعليمي اللغوي، والمنهج التلفيقي يجمع بينهم الاعتماد على الأصول نفسها، ويختلفون من حيث إن أصحاب الاتجاه اللغوي التعليمي أكثر حرية، واجتهاداً فهم يعتمدون على من سبقهم من العلماء، ويعتنون أيما عناية بالاختيار، كما لا يتحرجون من الحذف،  وإعادة الصياغة، فيمر الشرح بعملية تصفية كاملة.

في حين أن أصحاب الاتجاه التعليمي التلفيقي يقتصرون على اختيار الشروح التي تخدم غرضهم، ويقومون باختصارها، والتوفيق بينها مع الخضوع التام للمراجع المعتمدة، ووفق ما يرى المؤلف فمن الصعب اعتبارها بمثابة تأليف، بل إنها في أحسن الأحوال مختارات من شروح سابقة.

أما أصحاب الاتجاه الفني فما يميزهم أنهم أقرب إلى غاية التعليم الفنية، حيث إن النص عندهم هو الأصل الذي يدور حوله الكلام، إذ يسعون إلى توضيح أهم ما فيه بأقرب،  وأدق أسلوب، كما يقومون بتجلية أبعاده التاريخية من دون إسراف، فالتوازن سمة من سمات هذا النوع من الشروح التعليمية، فيتجلى الشرح وسيلة مناسبة للفهم، ويقوم بدوره في حالة معقولة،  ومقبولة.

..بين يدي الثقافة اللغوية

خصص المؤلف الفصل الثالث من الكتاب لدراسة نص المعلقات بين يدي الثقافة اللغوية، ولا ريب في أن نظرة أصحاب الثقافة اللغوية للمعلقات جديرة بالبحث،  والتنقيب، وهذا ما جعل الدكتور سليمان الشطي يميط عنها اللثام، ويتوقف معها ملياً، إذ أن الشروح العربية القديمة للشعر اعتمدت أساساً على الفهم اللغوي للنص، الذي تظهر أبسط صوره في شرح المفردات وصولاً إلى المستويات العميقة كما تجلى الأمر في نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني.

يذكر المؤلف أن منهج اللغة بمعناه الاصطلاحي، وعلومه، وفهم قوانين اللغة، وتراكيبها، وصلتها بالأداء الفني هوالأساس الذي قام  عليه«شرح ابن كيسان»، و«شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات»لابن الأنباري، و«شرح القصائد التسع المشهورات»لابن النحاس.

ويؤكد الدكتور سليمان الشطي أن«هذه الشروح الثلاثة تتبع أسلوباً واحداً في تناول النص مع تميز كل واحد منها بخصائص لصيقة به. ويمثل ابن كيسان المقدمة الطبيعية للشرحين الآخرين، فقد جمع في شرحه خصائصهما في صورة أولية، لتتضح بعد ذلك فيها أحسن تمثيل، بينما تتقارب شخصية ابن الأنباري، وابن النحاس، فكلاهما له اهتمام واضح بالعلوم اللغوية تدريساً وتأليفاً، وكلاهما ارتبط بمدرسة ذات اتجاه لغوي متميز معروف، فابن الأنباري اسم بارز حين تعد أسماء رجال المدرسة الكوفية، ومال ابن النحاس إلى المدرسة البصرية، هذا مع وجود مرونة واضحة عند الاثنين في تناول القضايا اللغوية»، ص:124.

كما يذهب إلى أن هذين الشرحين يمكن اعتبارهما أهم شرحين للقصائد السبع نظراً لأنهما جمعا حصيلة جهود العلماء السابقين الذين ساهموا في جمع هذه القصائد، والتعليق عليها، فهما يعتبران مرجعان رئيسيان، وعلى الرغم من اتفاقهما في المنهج العام، فمن جانب آخر يختلفان في التفاصيل الدقيقة، وفي ذوق كل واحد منهما، فابن النحاس يغلب عليه الفهم اللغوي في حدود ضيقة قياساً على طريقة ابن الأنباري، «فهومعني بحدود اللغة الاصطلاحية من نحووصرف وما يدور حولهما من معارف.ويرى أن إشباع التفسير في هذه العلوم وتقصيها يعني أن الشرح قد اكتملت أطرافه.ومن خلال هذا الخط العريض البارز يقدم شرحه من دون أن ينسى المعارف الأخرى من تفسير للمعنى والاستشهاد بالشعر والتنبيه على العلوم البلاغية وتبيين الحوادث التاريخية، كل هذه متوافرة في شرحه،  ولكنها تأتي في الدرجة الثانية بعد علوم اللغة »ص:125.

أما ابن الأنباري فهو يختلف معه في طريقة التناول، ويشاركه في عموم الجزئيات، ويتميز عنه كونه أكثر حرصاً على التوازن بين تلك المعارف كلها، إذ يستوي الفهم اللغوي عنده فهماً شاملاً لكل ما يحيط بالكلمة الشعرية، كما أنه يفصل تفصيلاً واضحاً في تقديم كل تلك المعارف، فيقدم الكلمة الشعرية في إطار وسطها اللغوي، والفني،  والتاريخي، والاجتماعي، والسياسي، مما يجعل الصورة مكتملة أمام القارئ على الرغم من أن النظرة اللغوية تستهويه أحياناً، إلا أنه لا يفقد نظرته المتسعة للنص، فابن الأنباري كان ممثلاً للمنهج اللغوي العام، بينما يمثل ابن النحاس المنهج اللغوي الخاص.

..الزوزني:نظرات فنية

تحت عنوان: «الزوزني:نظرات فنية»ناقش المؤلف في الفصل الرابع من الكتاب باستفاضة، وعمق نظرات الزوزني، وجهوده الفنية المتميزة في دراسة المعلقات، فهذا الفصل كما يقول المؤلف عنه هو دراسة للنظرة الفنية في شرح القصائد السبع عند القدماء من خلال كتاب« شرح القصائد السبع»للقاضي أبي عبد الله الحسين بن أحمد الزوزني.

وينبه المؤلف إلى أن القول إنها فنية لا يعني أنها خرجت عن إطار الفهم اللغوي، فالزوزني لم يكن بعيداً عن هذا الفهم، ولم يكن عصره، أو ثقافته،  أو شخصه يسمح له بتجاوز الفهم اللغوي، وما يقصده الدكتور الشطي بالنظرة الفنية هي تلك التي تنظر إلى النص الشعري على أنه فن، وأن شرحه هو الأساس الأول، في حين أن العلوم الأخرى معينة، ومساعدة، حيث ينصرف الشارح إلى بيان القصيدة مستخدماً شتى الوسائل، وبذلك تتوازن المعارف كلها في سبيل تقديم النص الشعري للقارئ تقديماً معقولاً ومفيداً، وهذا ما سعى إليه الزوزني في شرحه، ويصف المؤلف شرح الزوزني بأنه«جمع محاسن أصحاب المنهج اللغوي، واختصر الزوائد والاستطرادات، وحصر فهمه في النص الفني وبيَّنه في حدود الطاقة، بيان من فهم معنى القصيدة فهماً جيداً، ليس من جهة حرفية الألفاظ، ولكن بالنفاذ إلى ما يريد أن يقوله الشاعر، مدركاً إشاراته، وتلميحاته مع الاستعانة والاستفادة من كل المعارف الأخرى، والاحتفاظ بالتوازن المطلوب بحيث يظل النص الشعري هوالبارز دائماً، فقد صهر الزوزني كل المعلومات المهمة والمتعلقة بالنص وسكبها في شرحه الموجز، فكان خير من مثل الانتقاء والتوازن والقدرة على التعبير عما في هذه القصائد بما يستطيع عصره أن يقدمه».ص:196.

كما يؤكد الدكتور سليمان الشطي على أن النظر  إلى مصادر الزوزني يختلف عن مثيلها بالنسبة إلى ابن الأنباري، وابن النحاس، إذ أنهما كانا قريبي العهد بالرواية الشفوية، وعاصرا مرحلة التدوين الأولى النشطة، في حين أن الزوزني لم تكن أمامه إلا نصوص القصائد مع الشروح المكتوبة التي رافقتها، وفي تعامله مع الشروح كان أكثر تحرراً، واجتهاداً من الذين عاصروه، أوسبقوه، كما برز الزوزني شارحاً متمكناً ذا نفس شفافة، وتمكن تحت ظلال المنهج القديم من تقديم تلك اللمسة الطيبة لشرح متوازن الأركان، بحيث تجلت النظرة الفنية للنص التي تحتكم إلى ذوق قادر على تلمس جوانب المعنى في البيت الشعري، كما تطرق المؤلف إلى خصائص شرح الزوزني، وأوجزها في الحس الفني في الشرح، والحس الفني في شرح المفردات، والحس الفني في شرح المعنى. وخلص في ختام هذا الفصل إلى أن شرح الزوزني حقق«توازناً معقولاً بين المعارف اللغوية والتاريخية التي وقف عندها الشراح الآخرون، وبين الحاجة إلى فهم الجانب الفني في القصيدة بإدراك حدود الألفاظ، ودلالة المعنى والصور الفنية»ص:233. ..

“يتبع”.

محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـــــة * كلية الآداب واللغات ، جامعة عنابة

 

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى