كتب

“البان أفريكانزم”: فكر نضالي من أجل تحرير إفريقيا

كتاب “البان أفريكانزم” وهو عصارة مجهود مجموعة من الباحثين الذين ينحدرون من دول القارة الأفريقية، يحاول مناقشة فكر البان أفريكانزم من خلال معالجة أبعاده السياسية والتاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بأسلوب علمي، يوظِّف مختلف المعارف والمناهج العلمية.

برزت فكرة البان أفريكا في نهايات القرن التاسع عشر بين مجتمعات الدياسبورا الأفريقية التي أسسها المنحدرون من سلالة الأشخاص الذين استعبَدوا من غرب ووسط أفريقيا، ونُقلوا إلى أوروبا والأمريكتين في عمليات تجارة العبيد عبر الأطلنطي بين القرنين السادس والتاسع عشر، وانتقلت إلى القارة الأفريقية في بدايات القرن العشرين، واتخذت منحى تحرريا للشعوب ذات الأصول الأفريقية من كل أشكال الاستغلال “الرق والاستعمار، والاستعمار الجديد”، وتحقيق قيم العدالة والمساواة والكرامة، وحق الشعوب الأفريقية في التنمية والاستقلال والانعتاق من قبضة الرأسمال الأوروبي وتحقيق التقدم الاقتصادي.

وهذا الكتاب “البان أفريكانزم” الذي يشارك فيه عدد من باحثي بعض دول القارة الأفريقية وهم كريبسو ديالو، يوسف شوقي مجدي، زياد النابلسي، عفيفة الطيفي، إديسون جوزيف قرنق، وصدر عن مؤسسة أروقة، يأتي كمحاولة جادة لمناقشة فكر البان أفريكانزم من مختلف أبعاده السياسية والتاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وذلك بأسلوب علمي يوظِّف مختلف المعارف والمناهج العلمية المتراكمة.

..رحلة لانتزاع الحقوق

كتاب “البان أفريكانزم” محاولة جادة لمناقشة فكر البان أفريكانزم من مختلف أبعاده السياسية والتاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وذلك بأسلوب علمي يوظّف مختلف المعارف والمناهج العلمية المتراكمة

رحلة البان أفريكا بدأت من الشتات عند النضال من أجل الحقوق المدنية للزنوج ثم انتقلت إلى القارة الأفريقية “فالبان أفريكا خلقت مساهمة إيجابية للنضال من أجل تحرير أفريقيا من الاستعمار، لكن المعركة بعيدة من نهاية المرحلة الأولى من الثورة الوطنية ضد الإمبريالية وكسب الاستقلال السياسي وتأسيس الدولة الوطنية (استكمال مهام التحرير) عبر المرحلة القادمة من الثورة الوطنية ضد الإمبريالية، بتحقيق الاستقلال الاقتصادي وتقوية سيادة الدولة، التجارب أثبتت أن ذلك لم ينجز بعد. تحتاج إلى توحيد كل الأفارقة خلال منبر واحد ضد الإمبريالية، لكي يسهل تحقيق الثورة، فالخلاص الأفريقي يعتمد على الوحدة من خلال تلك الرحلة النضالية، كانت هناك مبادئ فكرية للحركة شكّلت الأساس النظري والمفاهيمي للثورة الوطنية الأفريقية، تاريخ الثورات أثبت أنه كلما حملت الثورة أفكارا نضجت واستمرت لفترة طويلة”.

ووفقا للباحث إديسون جوزيف قرنق، فإن النقطة الجوهرية في مبادئ البان أفريكا هي تحرير الإنسان والشعوب الأفريقية من كل القيود التي سلبت ذاتها وحولتها إلى آلة لتراكم الأرباح للرأسمال الأوروبي، مما أفقدها كينونتها وذاتها، وجعلت الإنسان الأفريقي مسلوب الإرادة، لذلك استهدفت عملية التحرير انعتاق الشعوب الأفريقية من النظام الاستغلالي، كشرط لاستعادة الإنسان ذاته، ولطاقته الإنسانية، بحيث يمارس تقاليده وطقوسه المرتبطة بالنشاط اليومي لإنتاج الثروة الاجتماعية، خارج إطار العمل القسري الذي فرض عليه. لذلك كان التحرر من قيود الحتمية الاقتصادية لعلاقات الاستغلال هدفا رئيسيا لحركة البان أفريكانزم.

ويقول قرنق إن مبدأ الوحدة الأفريقية في فكر البان أفريكا لديه بعد تاريخي يتصل بتاريخ أفريقيا العريق ويمتد عبر العصور القديمة، ليشمل الممالك والحضارات القديمة في كوش وتمبتكو وغيرهما، ويرتبط بالوجود الاجتماعي للشعوب الأفريقية بمختلف إثنياتها وقبائلها ونُظمها السياسية والإدارية والأنشطة الاقتصادية للمجتمعات، مضيفا أن وقائع التاريخ تحدثنا عن الإرث التاريخي للشعوب الأفريقية في الهجرة والتنقل من مكان إلى مكان آخر، مما أدى إلى خلق تواصل وتعاون مشترك بين كل المجموعات، وهو ما خلق تشابها في السمات الثقافية من لغات وعادات وتقاليد لبعض المجموعات العرقية التي حدث بينها تواصل، بالإضافة إلى التعاون المشترك في مجال الاقتصاد عبر تبادل المنتجات المستخرجة من النشاط الإنتاجي للمجتمعات، وتبادلها مع المجتمعات الأخرى التي لديها نشاط إنتاجي مختلف.

ويرى أن عبارة ما عرف لاحقا بالسوق المشتركة في مفهوم الوحدة الأفريقية والذي يعني ذلك التعاون المشترك بتبادل المنافع الاقتصادية، نتج عنها ارتباط قوي بين تلك المجتمعات. ففي الحقيقة فكرة السوق المشتركة تم استلهامها من الممارسات التاريخية للشعوب الأفريقية في ما يختص بالتعاون الاقتصادي بينها، (الأغلبية الساحقة من المجتمعات المحلية الأفريقية قد وفرت في الوقت نفسه بعضا من احتياجاتها على الأقل عن طريق التجارة، فقد كانت أفريقيا قارة مليئة بالطرق التجارية التي لا تحصى، وامتدت بعض هذه الطرق لمسافات طويلة).

ومثال ذلك عبر الصحراء، أو الطرق المرتبطة بنحاس كاتنجا، لكن التجارة كانت تتم في الأساس بين مجتمعات مجاورة، أو مجتمعات لا تفصل بينها مسافات بعيدة، كما كانت التجارة على الدوام بمثابة إحدى وظائف الإنتاج. كانت المجتمعات المختلفة تنتج فوائض من سلع معينة تمكن مبادلتها بسلع لا تتوافر لديها، وكانت المقايضة أحد أبرز الأمثلة لذلك التعاون التجاري. لم يقتصر مفهوم الوحدة الأفريقية على التاريخ فقط وتبادل المنافع التجارية، بل شمل أيضا مفهوم الإنتاج لتلبية احتياجات المجتمع المحلي، فالاقتصاديات التقليدية بأفريقيا اقتصاديات كفاف، تنتج لتلبية احتياجات المجتمع المحلي بغض النظر عن التقسيمات المختلفة (الأسرة والعشيرة والقبيلة والمملكة)، وتوفر كل متطلباتها الغذائية من الإنتاج. الشيء الذي ساعد المجتمعات الأفريقية القديمة في تحقيق ذلك هو انعدام الحدود الجغرافية التي خلقها الاستعمار، فقد كانت الحركة والتنقل بين المجتمعات سهلين، فمسارات الرعاة امتدت بين مناطق عديدة دون أي حواجز أو قيود، لذلك ارتبطت المجتمعات ببعضها البعض وسادت علاقات قوية بينها، مبنية على التعاون والعيش المشترك.

ويلفت إلى أن مفهوم الوحدة الأفريقية في فكرة البان أفريكا ينطلق من ذلك البعد التاريخي لوحدة المجتمعات الأفريقية قبل مجيء الاستعمار، ليعبِّر عن أشواق وآمال الشعوب الأفريقية في العدالة والحرية والتقدم من خلال معالجة الآثار المدمرة لسياسات الاستعمار، في ما يختص بقطع طريق التطور الطبيعي للمجتمعات الأفريقية وفرض التخلف.

..دحض الادعاءات

وفقا للباحث كريبسو ديالو الذي أعد الكتاب وقدم له، فإن الدراسات التي ضمها الكتاب تدحض ادعاءات الذين يحيون هذا الفكر التقدمي اليوم من خلال التلفيق والتزييف، من أجل تصويره من خلال ترديد بعض النزعات الشوفينية التي تقوم على أساطير خرافية لا علاقة لها بالواقع التاريخي، ذات طابع “عرقي – إثني” يراد من خلالها إعادة قراءة وتأويل التاريخ لمصلحة نخب تختبئ وراء الخطاب الثقافي، الذي يؤسس لأيديولوجيات الانعزال أو الاختزال وتصوير الصراع في القارة الأفريقية على أساس أنه عرقي أو ثقافي، صحيح أن المفكرين والساسة الأوائل الذين اعتنقوا هذا الفكر ربطوا بين تحليل المركَّب الاجتماعي وطبيعة المكون الثقافي للمجتمع، وتحدثوا عن التنوع الثقافي الذي يجب أن نعطيه أهمية في العمل السياسي، ولكنهم لم ينفوا عندئذ الطابع الطبقي للثقافة محليا أو عالميا.

ويضيف “نكروما مثلا لم يكن ذلك القومي الذي يتوقف عند مفهوم الأمة، ولكن وحدة القارة عنده كانت في تنوعها وصراعاتها في ظل مفهوم ثقافي وتحليلي للمجتمعات وتشكيلاتها الاجتماعية من قبائل وأعراق، مع عدم نفي ضرورة الانتباه لعملية التحديث التي سوف تنقذ المجتمعات الأفريقية من الغرق في الأيديولوجيات القبلية والعرقية، وعند تقييم ظاهرة معقدة مثل القومية، لابد أن نتذكر أن هذا المصطلح قد اكتسب معنى واسعا في الأدبيات العالمية بشكل عام والأفريقية بشكل خاص، فإن المناضل الكونغولي باتريس لومومبا كان يشير إلى أن ألبان أفريكانزم فكر له وعي طبقي يرمز إلى نضال الشعوب الأفريقية من أجل الاستقلال القومي ضد شوفينية القوى العظمى واحتقار شعوب العالم الثالث، وليس فكرا صاحب ميل محافظ عرقي أو عنصري.

وأمامنا أيضا تراث أميلكار كابرال عن “المقاومة الثقافية الوطنية” عندما تحدث عن الثنائيات الديالكتيكية بين ما هو ثقافي واقتصادي أو ثقافي وسياسي، وحاول تصور تفاعل ما إيجابي بينهما، بل وصلت به استنتاجاته إلى الحديث عن السلبي والإيجابي في التراث الثقافي الوطني، ليبقي على عنصر الحداثة بوعي سياسي تحرري نضالي، اليوم مع تجريد وانعدام تحليل التنوع الاجتماعي والثقافي أدى إلى نتيجتين: أولاهما، سقوط الهوية الوطنية في شباك الهويات النوعية: (القبيلة، العرقية، الإثنية) أو سقوط الهوية الوطنية في براثن الماضي الديني “الأصولي”، وقد فرض ذلك نوعا من اغتراب المجتمع عن تحريره من كل هذه الأمراض الاجتماعية، بسبب معاناة قضية الهوية والثقافة الوطنية من عملية الاختراق الشرسة، التي تجد فيها النيوكولونيالية أرضا رخوة تماما جاهزة للغزو على يد من يدعون الانتساب لهذا الفكر التقدمي، الذين لا يسهمون في إثراء الفكر أو يسمحون للتشكيلات الاجتماعية في القارة بتحقيق أهدافها القائمة على تنمية الثقافة الشعبية ومواجهة الثقافة الكولونيالية بجميع أشكالها، والنضال من أجل تحقيق ثقافة علمية تتوافق مع متطلبات التقدم، والتحدي من أجل أعمال إخصاب التاريخ بالتعبير الواسع عن ثقافتنا وأفريقيتنا، وترجمة ذلك بقفزة إلى الأمام معبّرة عن ثقافة الشعوب المتحررة من براثن التخلف والرجعية والتبعية.

وانطلاقا من هذه الرؤية يعرض كريبسو موجز تاريخ النضال الذي خاضته الشعوب الأفريقية منذ عام 1885، عندما عقد مؤتمر برلين واستلزم حدوث مقاومة متزايدة من جانب الشعوب، تلك المقاومة التي بلغت أوجها في الستينات وبرزت من خلالها أفكار البان أفريكانزم، ولكن المبالغة في تبسيط الأمور من خلال الادعاء بأن المقاومة الأفريقية للغزو الأوروبي قد أدت مباشرة وبلا انحراف إلى قيام الثورات الشعبية التي كان بعض طليعتها من أبناء البرجوازية الصغيرة في “الستينات” من القرن العشرين، لأن كما من الطاقات بذل من أجل الحراك الذي نتجت عنه ثورة البان أفريكانزم الفكرية والاجتماعية، وما أكثر الصور التي عبّرت بها هذه الحركة عن نفسها، وما أكثر المسائل التي ثار حولها النزاع بين هذه الحركة والدول المالكة للمستعمرات: كالدفاع عن الأرض ومقاومة الضرائب والسخرة ومعارضة التورط في الحروب العالمية ومحاولة إقامة مؤسسات دينية أفريقية مستقلة، والمطالبة برواتب أعلى وبحقوق نقابية ومناهضة قوانين المرور وغيرها من صور التفرقة العنصرية ومن أجل منح الأفارقة حقوقا سياسية كاملة، والحملات التي كانت تهدف إلى “أفرقة” الوظائف المدنية، فكل هذه المسائل وغيرها كافحت الحركة من أجلها ونمت.

ومن هذه المطالب وعن طريق التنظيمات وأساليب العمل المناسب التي وجدت لتأييد هذه المطالب، اجتاحت القارة عاصفة قوية من الحراك الثوري الذي أصر على كسب سلطة وطنية وسياسية كاملة، وعلى إثبات “أفريقيا للأفريقيين” لا للاستعماريين الأجانب، لم تكن معركة من هذه المعارك تجري في سلام، كان الضرب بالعصا أو الرصاص أو السجن، بل إنه عندما كانت هذه الأسلحة لا تكفي كانت هناك المذابح الجماعية التي يلجأ إليها بقصد إخضاع الشعب الأفريقي. وإذا كان هناك انسجام وتوافق في الحراك الأفريقي من عام 1885 إلى عام 1960، فذلك إنما يكمن في استعداد الدول الأوروبية في أفريقيا لاستخدام أقسى إجراءات القمع ومن أجل الاحتفاظ بسيطرتها، ومن الشائع هذه الأيام للأسف في داخل القارة وخارجها مزاعم تدّعي أن الشعوب الأفريقية فازت بالاستقلال السياسي بمساعدة العالم الغربي أو أن استقلال وبناء ركائز لم يكونا ليكتملا دون تقديم يد العون من الرجل الأبيض الأوروبي.

ويرى كريبسو ديالو أنه “ليس هناك معمل متساو للتطور من بلد أفريقي إلى آخر بسبب تباين الظروف في جميع أنحاء القارة الأفريقية، ففي بعض الأحيان كانت تقوم حركة كبيرة في إحدى المناطق لا تلبث أن تتجمد ويلحقها التقدم السريع في منطقة أخرى. لقد ظهرت الأحزاب السياسية الأفريقية في بعض المناطق قبل غيرها بعقود. وقد ظلت نقابات العمال والإضرابات ردحا من الزمن تعتبر مجرد ظواهر في بعض البلدان الأفريقية، في حين أنها في بلدان أخرى حديثة العهد نسبيا لم تكن كذلك، بل كان لها دور مهم في النضال من أجل الاستقلال، بل إن الاستقلال السياسي لم يتحقق في كل مكان في وقت واحد، برغم أن التباطؤ في الزمن بين جزء وآخر في القارة كان في طريقه إلى الزوال بفضل تضامن الشعوب الأفريقية في تيار البان أفريكانزم”.

الحياة العربية

يومية جزائرية مستقلة تنشط في الساحة الاعلامية منذ سنة 1993

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى