إسلامياتفي الواجهة

«إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن…»

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحِمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمًى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجسدُ كُلُّه، وإذا فسدت، فسد الجسد كُلُّه، ألا وهي القلب».

عباد الله، هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، ومعدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعد الدين والشريعة، قال بعض العلماء: عمدة الدين عندنا كلمات مسندات من قول خير البرية: أترك الشبهات (ويقصد الحديث الذي بين أيدينا) وازهد ودَعْ ما ليس يعنيك (وهو حديث: «من حُسْن إسلام المرء تَرْكُه ما لا يعنيه»)، واعملَنَّ بنيَّةٍ (وهو حديث: «إنما الأعمال بالنيات») وقد سبق معنا.

والحديث يفيد أن الشريعة ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الحلال البَيِّن الواضح، والقسم الثاني: الحرام البَيِّن الواضح، والقسم الثالث: المتشابه، وهو كل ما ليس بواضح حله أو حرمته؛ ولهذا لا يعرفه كثير من الناس، وأما العلماء فيعرفون حكمه بنص أو قياس، وأوصى صلى الله عليه وسلم بترك المشتبهات استبراءً للدين، ولأنها تؤدي للوقوع في الحرام، وشَبَّه ذلك بمن يرعى بالقرب من أرض محمية، فإنه لا يأمن من الوقوع فيها، ونبَّه صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث إلى أهمية القلب ودوره في صلاح باقي الجوارح أو فسادها تبعًا لصلاح القلب أو فساده.

فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟

1- وجوب البُعْد عن الحرام البَيِّن والاكتفاء بالحلال البين؛ كشرب الخمر، وتناول المخدرات، وأكل لحم الخنزير، فهي حرام بيِّن، فنتركه إلى ما أباحه الله من أنواع الطيبات التي لا تنحصر؛ كثمرات النخيل والأعناب، وهي حلال بيِّن.

وعلى هذا القياس؛ فنترك الاستدانة بالربا إلى القرض الحسن، والكذب إلى الصدق، والخيانة إلى الوفاء، والسرقة إلى العمل والكسب الحلال، والزنا إلى الزواج أو الاستعفاف إلى حين القدرة عليه، ونترك قذف المحصنات المؤمنات والغيبة والنميمة إلى السكوت عن أعراض المؤمنين والمؤمنات، ونترك الغش في الميزان والامتحانات والعمل إلى الأمانة والصدق والوفاء والإتقان وغيرها، قال تعالى: ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 119]، وقال: ﴿ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ [المائدة: 88].

2- قاعدة سد الذرائع والبعد عن المتشابه: سد الذرائع نقصد بها سد الطرق الموصِّلة إلى الحرام، أو كما نقول: الباب الذي يأتيك منه الريح أغلقه. وهذه قاعدة عظيمة لدى علمائنا، يدخل فيها الكثير من الأمثلة في واقعنا، ومنها: ترك المتشابهات؛ وهي غالبًا تكون في باب المكروهات التي لم تصل إلى درجة التحريم الصريح، لكن الورع يقتضي تركها؛ لأن تركها من كمال الإيمان.

ومن أمثلتها: من يبرم موعدًا مع شخص أمام خمَّارة، فهذا لا يليق، فالأماكن التي لا شبهة فيها كثيرة، وإذا رآك أحد أساء الظن بك، أو من يحمل شيئًا مباحًا في قنينة معروفة للخمور، نقول: لا يليق؛ وعليك سد ذريعة إساءة الظن بك، أو من يجلس مع رفقة سيئة تنطق بالكلام الفاحش أو تعاقر خمرًا أو تتناول مخدرات رغم أنه لا يفعل من ذلك شيئًا؛ لأنه إن فعل فقد وقع في الحرام البيِّن، ولكن من حمى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.

وكمثال شخص يتردد على موقع (إنترنِت) أو يشاهد قنوات أو يقرأ كتابًا أو جريدةً يختلط فيها الحق بالباطل، والحلال بالحرام، ولا يستطيع التمييز بينهما؛ لأنه ليس بعالم، أو قد ينجرُّ إلى الحرام، نقول له: ابتعد؛ لأنك تحوم حول الحمى وحول الحرام، فإنك توشك أن تقع فيه. أو من يعمل في أماكن يختلط فيها الحلال بالحرام، ولا يأمن على نفسه من الوقوع في الحرام، فالأولى الابتعاد والبحث عن مكان يسلم له فيه دينه ورزقه، فما من مصيبة أعظم من الابتلاء في الدين، ومن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه.

4- السعي لإصلاح القلب لأنه أمير البدن: أشار النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث إلى أهمية القلب، فقال: «ألا وإن في الجسد مضغةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجسدُ كُلُّه، وإذا فسدت، فسد الجسد كُلُّه، ألا وهي القلب»، والقلب سُمِّي كذلك لشدة تقَلُّبه، ومن أسباب الاهتمام به ما يلي:

 

  • أنه آلة لفقه الأمور والتذكُّر، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179]، وقال: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ [ق: 37]؛ ولهذا استدل الكثير من العلماء على أن العقل في القلب.
  • وأن صلاحه يُورِث صلاحًا في السلوك، وفساده يورث فسادًا في السلوك، فهو كالأمير والملك، بصلاحه تصلح الرعية وبفساده تفسد. وقديمًا قيل: كل إناء بالذي فيه ينضح.
  • ونهتم به أيضًا؛ لأن هذا القلب يعتريه الفتور والمرض، قال تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة: 10]، والمقصود بمرض القلب ما يُصاب به من أمراض الشبهات والشهوات؛ كالكفر والنفاق والشك والقسوة والحقد والحسد والكراهية وغيرها، فالواجب على المسلم إصلاح قلبه من هذه الأمراض ومجاهدة نفسه؛ لأن الله ضمن لمن أخذ بهذه الأسباب أن يُوفِّقه للهداية والاستقامة، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
  • ونهتم به؛ لأنه محل نظر الله يوم القيامة؛ إذ الإنسان قد يظهر الإخلاص لكن علَّام الغيوب يعلم أنه مشرك، وقد يظهر التقوى والورع وحقيقته غير ذلك، وقد يظهر الإيمان لكنه منافق، وقد يظهر الفقر والحاجة ويتسوَّل الناس في الطرقات ولكنه يملك ما لا يملكون، وهكذا. قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم»، وأشار بأصابعه إلى صدره .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى