في الواجهةمقالات

إصلاح الدبلوماسية العالمية الفاشلة

أميتاب بيهار

أدّى انفجار في مستشفى الأهلي العربي في غزّة، في أكتوبر 2023، إلى مقتل 471 رجلاً وامرأةً وطفلاً. كانت المجزرة مروّعة. أتذكر أنّي فكّرت: “لن يستطيع أحدٌ تجاهل الموقف، بغضّ النظر عمّن تسبّب في الانفجار، على الأقلّ سيُجبِر ما حدث العالمَ على التحرّك”، ولكني كنت مخطئاً.

في اليوم التالي مباشرةً، حتّى عندما قالت “بي بي سي” إنّ “أجزاء من الجثث لا تزال تُجمع وسط مراتب مغطّاة بالدماء، منتشرة حول المجّمع”، لم يستطع مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة التحرّك. قدّمت البرازيل قراراً كان من شأنه إدانة هجوم حركة حماس، والدعوة إلى الإفراج الفوري عن الرهائن الإسرائيليين، لكنّ الولايات المتّحدة استخدمت حقّ النقض (فيتو) لأنّ الدعوة إلى وقف إطلاق النار من أجل إيصال المساعدات الإنسانية المصاحبة للقرار لم تكن كافيةً لتلبية مصالح حليفتها إسرائيل. وبعد مرور أيّام، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتّحدة بأغلبية ساحقة (121صوتاً) لصالح وقف إطلاق النار في غزّة، لكن مجلس الأمن، مرّة أخرى، لم يأخذ ذلك في الاعتبار. بعد مرور شهرين، وتحت تهديد أميركي بمزيد من استخدام “الفيتو”، لم يستطع مجلس الأمن الاتّفاق على وقف لإطلاق النار، حتّى عندما منعت إسرائيل المساعدات الإنسانية، واستخدمت التجويع سلاحَ حربٍ، ونفّذت عمليات عسكرية قتلت عشرات الآلاف الآخرين. … ما الذي أصاب مجلس الأمن؟

أصبح تفويض الأمم المتّحدة لدور الحفاظ على السلام والأمن العالميَين أكثر أهمّيةً اليوم من أي وقت مضى. لا يزال مجلس الأمن ضرورياً لتطبيق المعايير العالمية للشرعية والقانون الإنساني الدولي واحترام حقوق الإنسان. ومع ذلك، كشف تقرير أصدرته منظمة أوكسفام (اتحاد دولي لمنظمات خيرية تعنى بمحاربة الفقر في العالم) عنوانه “استخدام حقّ النقض ضدّ الإنسانية”، بشأن قرارات مجلس الأمن (في مدار العقد الماضي) حول 23 من أكثر الصراعات دمويةً وطولاً في العالم، أنّ أعضاءه الدائمين (الولايات المتّحدة وروسيا والصين وفرنسا والمملكة المتّحدة) قد سعوا، بشكل ممنهج، إلى تحقيق مصالحهم الوطنية والجيوسياسية الخاصّة، ويلعبون دور القاضي وهيئة المُحلّفين في آن معاً، بما يتماشي مع مغامراتهم العسكرية الخاصّة، وتلك الخاصّة بحلفائهم. هنالك عدم مساواة جوهري في قلب نظام السلام والأمن العالمي، يمنح هذه الدول الخمس قوّةً أكبرَ من بقية الدول الـ193 الأعضاء في الأمم المتّحدة مجتمعةً.

بُنِيَ مجلس الأمن على إرث استعماري قد انقضى وقته. لننظر أولاً إلي حقّ النقض، الذي كان، في الأصل، يهدف إلى ضمان عدم استخدام القوى العسكرية في القرن العشرين لدول مجلس الأمن بعضها ضد بعض. اليوم، أصبح “الفيتو” بقايا استعمارية، وعقبةً أمام الجهود الرامية إلى السلام، التي تتحدّى مصالح الأقوياء من أجل مناصرة المدنيين المتضرّرين من النزاعات.

فوفق التقرير، من بين 30 فيتو استخدم في مجلس الأمن خلال السنوات العشر الماضية، تعلق 27 منها على وجه التحديد بأوكرانيا وسورية والأراضي الفلسطينية المُحتلّة وإسرائيل. هذه هي المناطق التي لدى أعضاء مجلس الأمن فيها بعض أهم مصالحهم الاستراتيجية. على سبيل المثال، في عام 2023، استخدمت روسيا حقّ النقض ضدّ تمديد المساعدة الإنسانية عبر الحدود إلى شمال سورية، ما ترك 4.1 ملايين شخص من دون مساعدات الغذاء والماء والدواء. كما استخدمت روسيا حقّ النقض ضدّ جميع القرارات الأربعة المتعلّقة بأوكرانيا، رغم أنّها كانت المُعتدِي في النزاع، ووفقاً لقواعد الأمم المتّحدة نفسها، كان يجب استبعادها من التصويت، ناهيك عن استخدام حقّ النقض، لكونها طرفاً في النزاع. أمّا الولايات المتّحدة، فقد استخدمت حقّ النقض ستّ مرات لمنع قراراتٍ غير مواتية لحليفتها إسرائيل خلال السنوات العشر الماضية. وقد أدّى ذلك إلى إيجاد بيئةٍ تمكّن إسرائيل من مواصلة هجماتها وتوسيع المستوطنات وانتهاكات حقوق الإنسان من دون عقاب.

لكن حتّى هذه الأرقام لا تعكس القصّة كاملةً. لقد أصبح حقّ النقض عقبةً كبيرةً إلى درجة أنّ الدول غالباً لا تقدّم حتّى مشاريع القرارات، لأنّها تعلم أنّها ستُحبَط، وسيُستخدَم الفيتو ضدها ببساطة. كما وجد التقرير تناقضاتٍ كبيرة في كيفية تقديم القرارات وموعدها، ومدى فعاليتها.

بينما اعتمد مجلس الأمن ما يقرب من 80 قراراً بشأن كلٍّ من جنوب السودان والسودان، و53 قراراً بشأن الصومال، و48 قراراً بشأن ليبيا. لم يُؤدِّ أيّ من هذه القرارات إلى سلام دائم. كما لم يُتبَع عديدٌ منها بإجراءات ملموسة أو بمواردَ كافيةٍ، وأغلبها ركّز في تمديد قوات حفظ السلام أو المساعدات الإنسانية. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أنّ الكونغو الديمقراطية نالت 25 قراراً من مجلس الأمن في السنوات العشر الماضية، إلّا أنّ بعثة الأمم المتحدة هناك (مونوسكو) كانت معوقةً بسبب نقص التمويل ونقص التنسيق. من ناحية أخرى، حظيت بعض النزاعات باهتمامٍ ضئيلٍ أو حتّى معدوم من مجلس الأمن.

مرّة تلو الأخرى، عندما يكون الناس العاديون في أمسّ الحاجة إلى المساعدة، نتوقّع أن يرفض المجلس أو يُخفّف لغة القرارات، أو ببساطة لا يتصرّف بشكل صحيح بشأن قراراته الخاصّة بالسلام. التكلفة البشرية لهذا الفشل المروّع غير مقبولة. فخلال العقد الماضي، قُتل أكثر من مليون شخص في 23 حرباً سلّطت دراسة “أوكسفام” التركيز عليها، بينما تضاعف عدد المحتاجين إلى المساعدات الإنسانية بهذه الحروب إلى أكثر من 230 مليون شخص. لم يعُد من الممكن أن تفي المساعدات الإنسانية باحتياجات هؤلاء الناس كلّهم، عندما يستمرّ مجلس الأمن في الفشل بإيجاد طرقٍ لإنهاء النزاعات. بلغت تكلفة المساعدات الإنسانية للحرب نحو 57 مليار دولار في عام 2023، لكنّ المانحين الأغنياء لبّوا 43% فقط من نداء الأمم المتّحدة، ما خلّف أكثر من مائة مليون شخص من دون مساعدة.

في ظلّ أزمة المناخ الحالية، إذ تخرج الاحتياجات الإنسانية بالفعل عن السيطرة، لا يمكن لمجلس الأمن أن يزيد الطين بِلَّة ويثقل العالم بحروب لا نهاية لها بسبب فشله. تدعو “أوكسفام” الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة إلى استخدام قمّة المستقبل لإشعال رؤية جديدة لتعزيز المبادئ التي قامت عليها الأمم المتّحدة، وبناء نظام يضع المساواة في قلب عملية اتخاذ القرار. يجب أن يُقدّم ميثاق المستقبل خطوات ملموسة لتفكيك الهيمنة الاستعمارية داخل مجلس الأمن. يبدأ هذا بإصلاح ميثاق الأمم المتّحدة لضمان أن يلتزم جميع الأعضاء حقّاً بمبدأ “عدم الإضرار”، وأن تخضع الدول القوية للمساءلة بالتساوي مع بقية العالم.

يجب ألّا تظلّ بنية السلام والأمن لدينا تحت سيطرة مجموعة صغيرة من القوى العسكرية، التي يمكنها منع السلام، وتجنّب المساءلة، وإدامة الصراعات.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى