في الواجهةمقالات

أنا أُقاوِم إذن أنا موجود

خليل النعيمي

المقاومة أصل الوجود. منذ أن يولد الكائن، تولد المقاومة معه. وفي الحقيقة، هو يتمتّع بها، حتى قبل ولادته. فلو لم يقاوِم وهو منطوٍ على نفسه في الرحم المحصور لما استطاع أن يرى النور، أصلاً. المقاومة، من هذا المنظور، حقّ طبيعي للكائنات.. لا شيء يمنع الكائن من المقاومة عندما يكون في وضع يضطره لفعلها. والشعوب، على اختلاف أصولها وأمكنتها، هي الأخرى، مثل غيرها من كائنات العالم الواسع، لها الحق في أن تتمرّد على مضطهديها المحليين، وأن تقاوِم مستعمريها من أي صنف كانوا، ولأي سبب استعمروها. الاستعمار لا يُبرَّر، لا بالدين، ولا بالاقتصاد، ولا بالتحضّر، ولا بالتاريخ، ولا بأي ذريعة أخرى.. وهو لا يستحق إلاّ المقاومة مهما كانت أثمانها باهظة، لأن الرضوخ للاستعمار سيكون أشدّ هولاً، وأكثر سوءاً، من المقاوَمة، مهما حاولنا تلطيفه.

المقاومة هي أقصر الطرق للخلاص من الاستعمار، خاصة عندما يكون مثل الاستعمار الصهيوني الشنيع في فلسطين. وما يحدث، اليوم، في غزة هو الشاهد الأعظم على فظائع هذا الاستعمار اللامحتملة التي تتجاوز كل الحدود.

لماذا نخشى المقاومة، إذن؟ لماذا يخشاها العرب، أو بالأحرى السلطات العربية، ومَنْ ينضوي في خانتها؟ «مبدأ المقاومة» مبدأ نبيل. وهو، نفسه، ما يجعل الوجود الكريه الذي يدنّسه الاستعمار بجرائمه محتملاً. لكن المقاومة، لكي تكون مجدية، وفعّالة، لا بد لها من أن «تنظِّف بيتها الداخليّ» أولاً. إذْ لا يمكن أن تنشأ مقاومة دون بيئة حاضنة لها، وهي لا يمكن أن تتطوّر وتنمو إلاّ في فضاء ملائم، تكون مدعومة منه، ومحسوبة عليه، إضافة إلى ذلك، لا يمكن أن تقتصر المقاومة على الاستعمار، وحده، بل لا بد لها من أن تتوجّه، أيضاً، وبالحماسة والإصرار نفسيهما، إلى مواجهة الاستبداد السلطوي السائد، في بيئتها، أيّاً كانت مبرراته الكاذبة. فلا طغيان بلا مبررات مزيفة ومدعومة من «ثقافة السلطة» التي تمارسه. الاستبداد السياسي، هو « دليل الاستعمار» الأثير، كما يحصل في معظم الدول ذات التاريخ المشابه. لكن، هل يشرح هذا التؤازرُ بين الاستبداد السياسي العربي، والاستعمار الصهيوني، الصمتَ العربي الرسمي على مجازر غزة؟ صمت من المحيط إلى الخليج! لكم يبدو ذلك مؤسفاً، لكن..

ما يحدث في غزة بالتحديد، وفي فلسطين بشكل عام، ومنذ عشرات السنين يُظهر بشكل جليّ ومؤسف الانشطار الحاصل بعمق في المجتمع العربي.. انشطار وتشتت وتبلّد وتردّد ومكائد ومناكفات ومؤامرات لا يبررها أي شيء على الإطلاق. لا شيء علَنيّاً، على الأقل، وإن كان كل شيء معلوماً. لكن العِلْم، في مثل هذه الحالة، يساوي الجهل، لأن السياسة هي علم «اللاعلم بالشيء» مع أننا نعرفه بدقّة، ونمارسه ببراءة. كل عِلَل هذا الانشطار والفَرْكَثَة والتفتّت والتهافت العربي، إذن، متجذّرة بعمق. وهو ما يجعلها مربكة ومثيرة للخوف والقلق من مصير محتمَل أكثر سوءاً ينتظرنا عند أول منعطف تاريخي مقبل. كلنا نعرف ما يحدث، اليوم، في قلب عالمنا العربي الذي يبدو شُبْه مخدَّر، وغائباً عن الوعي. ونكاد نعرف، أيضاً، ما سيحصل لنا، وبشكل دقيق، إذا ما استمرت الحال على ما هي عليه، الآن. ومع ذلك، فإن أياً منا لا يجرؤ على قول الحقيقة بصوت عالٍ، وهو ما يقتل بذرة المقاومة الإنسانية عربياً، مع الأسف. لكن غزة، لحسن الحظ، بيّنتْ لنا السبيل بمقاومتها الباسلة المفاجئة التي لن تخمد بعد اليوم.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى