“أقفاص فارغة”.. جرح لم يندمل

رواية فاطمة قنديل فازت بجائزة نجيب محفوظ 2022

“رواية لا تتنازل عن الصدق في رواية علاقات العنف في حياة أسرة عادية من الطبقة المتوسطة”- هكذا وصفت لجنة تحكيم جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة سنويًا، رواية الكاتبة المصرية فاطمة قنديل “أقفاص فارغة”، التي انتزعت الجائزة من بين ثلاثمئة وخمسين عملًا تقدموا لها.

اختارت قنديل تقسيم روايتها إلى أربعة أجزاء، حملت العناوين التالية: “علبة شوكولاته… صدأت للأسف!”، “البداية… حبٌ، وشجنُ أوتارِ كمان!”، “غرباء… يلعبون معًا: البنج بونج”، و”الغائب يعود في موعده… قبل بدء العرض!”؛ وتنقسم هذه إلى فقرات مرقمة، متفاوتة الحجم، متغايرة الصوت والنبرة والخلفيات، الزمانية والمكانية، موحّدة في توظيف ضمير المتكلم، متفنّنة على نحو بارع (لا يدهش من شاعرة قصيدة نثر متمكنة خبيرة) في تنويع درجات الومضة السردية، منشغلة كثيرًا بنقل الشحنات اللغوية من مناخ دلالي إلى آخر لجهة تسخير السرد، ماهرة تمامًا في الموازنة بين الأنا، ساردة ما يشبه البوح الذاتي السِيَري، والأنا الشاهدة على زمان ومكان وطبقة وسطى وأسرة ومحيط اجتماعي/ اقتصادي في مصر النصف الثاني من القرن العشرين.

“حين رأيتها جن جنوني، وأدركت أن البيت صار مستباحًا تمامًا كأنه مهجور، وكأن لا وجود لي فيه”- هكذا عبرت الكاتبة عن دهشتها في أحد الصباحات، حيث تفاجأت الراوية بحوض مزروع في حديقة بيتها، عبارة عن مخزن لأقفاص دجاج فارغة، وفي ثنايا السرد تشدد بطلة العمل وراويته على أن “فكرة وجود قارئ لهذه الأوراق ترعبني. أسوأ ما يمكن أن يحدث لي بعد موتي هو أن يأخذ الآخرون أقوالًا مأثورة مما أكتب الآن”. وهذا أمر مفهوم في ظل ما تعلنه الراوية، وهي شاعرة وأستاذة أكاديمية ومترجمة معروفة، من أسرار حميمية بعضها يخصها شخصيًا، وبعض آخر يخص عددًا من أفراد عائلتها. أبوها “السكير” الذي كان يحلم بأن يصبح مهندسًا، ولم يتمكن من تحقيق ذلك الحلم لفقر أسرته. وهي كانت دائمًا تبادله نفورًا غير مبرر، بمثله، بل ولطالما كانت تصارح أمها بأنها تتمنى موته. أما أمها فكانت كثيرًا ما تتشاجر مع أبيها بسبب الحرج الذي كان يسببه للأسرة عندما يسكر خارج المنزل.

يتصاعد البناء الروائي للعمل من فقرات سردية قصيرة تحمل مفارقات الشعر والتماعاته الخاطفة، وهي سردية روح شاعرة يتفتح وعيها بذاتها وسط العواصف التي أخذت تضرب الطبقة المتوسطة المصرية طوال الثلث الأخير من القرن العشرين.

“اختارت قنديل تقسيم روايتها إلى أربعة أجزاء، حملت العناوين التالية: “علبة شوكولاته… صدأت للأسف!”، “البداية… حبٌ، وشجنُ أوتارِ كمان!”، “غرباء… يلعبون معًا: البنج بونج”، و”الغائب يعود في موعده… قبل بدء العرض!””

تطرح الكاتبة من جديد سؤال الشكل السردي في الكتابة الروائية، وعلاقة جمالية التذكر بالتخييل، والأدب بالاعتراف، كما تصور ملامح بلد وعصر بأكمله تظهر من بين تصدعات طبقة متوسطة، ومن خلال صراع الراوية الوجودي مع الحياة، من مدن القنال، والحروب المتتالية، والنزوح والتهجير إلى ضواحي شرق القاهرة في ازدهارها وأفولها، إلى المهاجر النفطية وإعارات المعلمين، وهو زمن عاشته كل البيوت المصرية بدرجات مختلفة لا ترويه فاطمة قنديل، لكنها تعرضه دمًا ولحمًا، بكل الأفراح المختلسة والأحزان المقيمة والخوف من الغد الذي لا يتبدد.

كان التفكك عنوان حال تلك الأسرة المنتمية إلى الطبقة المتوسطة، وقد تجلى أساسًا في عدم اجتماعها على مائدة طعام. كان كل واحد يحمل صينية عليها طعامه، ويتناوله منفردًا: “نمت بعمق حتى الصباح، لم أكمل ساعتين متصلتين من النوم طيلة الشهور الماضية، أنتفض لأطمئن عليها ما إن أغفو، في تلك الليلة غبت أنا أيضا، وصحوت على انقطاع الكهرباء في الصباح، لم أنظر إلى ماما ملهوفة. هذه المرة نظرت إلى المرتبة المدارة بالكهرباء، فوجدتها تهبط، ويخرج منها الهواء، في صفير متصل، حاولت النهوض، لكن سحابة سوداء كانت تتحرك في الغرفة كلها، سحابة كأنها دوامات متلاحقة، بدت الغرفة وكأنها مزدحمة، كأن كائنات غير مرئية تعجل بإتمام مهمة، لكنني نهضت في النهاية، بعد أن هدأ كل شيء، كان رأسها يميل بعيدا عني، فمها مزموم، كعازف ناي، عيناها مغمضتان، ووجهها لا أثر فيه لتلك التقلصات، التي انتابته أخيرا، هادئة تماما، نظرت إليها بهدوء، وقبلت جبينها، لم يكن باردًا، وضعت رأسي على صدرها، وعرفت أنها ماتت”.

هنا، تحاول فاطمة الاعتراف طلبًا للراحة، وطمعًا فيها، على أمل أن يحدث ذلك: “ليس انتحارًا، أنا أريد أن أكشط قشرة جرح كي يندمل في الهواء، أو لا يندمل”.

“أقفاص فارغة” هي لحظة تعر بامتياز، لا تحكي فاطمة قنديل عن حياة مثالية وشخصيات مقدسة، بل تعري كل ما لا يقال، تجارب الاغتصاب المسكوت عنها، التحرش، التفكك الأسري، الخذلان، والتدريب على الصمت ليصبح طابعًا أصيلًا للشخصية!

فاطمة قنديل شاعرة وأكاديمية مصرية تشغل منصب أستاذ مساعد للنقد الأدبي الحديث في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة حلوان. ولدت في السويس عام 1958، وحصلت على الماجستير عن أطروحتها “التناص في شعر السبعينيات”، وحصلت على الدكتوراة عن أطروحتها عن شعرية الكتابة النثرية لجبران خليل جبران.

شاركت في تحرير مجلة “فصول للنقد الأدبي”، وصدر لها: “عشان نقدر نعيش”، أشعار بالعامية المصرية (1984)، “حظر تجول”، أشعار بالعامية المصرية (1987)، “صمت قطنة مبتلة” ـ دار شرقيات (1995)، “أسئلة معلقة كالذبائح” ـ دار النهضة العربية (2008)، “بيتي له بابان” ـ دار العين (2017)، فضلًا عن العديد من الدراسات والترجمات والمقالات الأدبية.

Exit mobile version